وكان الخير كل الخير

 

خليفة بن عبيد المشايخي

Khalifaalmashayiki@gmail.com

 

تنام العين وفي القلب غصص وكمد وأسى، ويغمض جفني وما غمض فكري ولا هدأ، يناوشني الهم تارة بتمهل وهو مُتبرم جزعاً، وتارة يحل ليس على عجل أو فزعا، وآخريات يقسو بكرب وضيق أسفا، وأنا مع هذا وذاك أتمتم أعمري هل سينقضي في قادمها دون أن ألقاك مرة، أم أن هنالك جمع آخر سأناله من ربي جل جلاله سأتشرف فيه بلقاك، فها هي أيامك أفلت، وها هي أوقاتك قفلت، وساعاتك أزفت.  

فيا ربي أجعلنا ممن لا تتوقف عباداتهم وطاعاتهم عند انتهاء رمضان، ولا تجعلنا ممن انقطع عمله الصالح بعده، ولا من الذين فترت علاقتهم بك، واشغلنا يا الله على الدوام بك حتى نلقاك وأنت راضٍ عنَّا غير غضبان، وتجاوز عن تقصيرنا وأنت قد غفرت زلاتنا، وانقلنا ياربي من طاعة إلى طاعة، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واجعلنا ممن حسنت سيرته، وحمدت مسيرته، وصلحت سريرته وعلانيته، فإنِّه ما ينفع مع فسادهن صلاح الظاهر.

بعد عدة أيام من يومنا هذا أيها الأحبة لن تكون الليالي أشبه باليوم والبارحة، ولن تكون الأوقات مترعة بالأنس والسكينة والوقار والروحانيات، ولن تكون ثرية بطهارة النفس وعفتها وتقواها كما تحقق ذلك لمن صام فعلاً وقام، ولم يُكثر الكلام وزيف القول والفعل ما راعى حرمة شهره فلم يحظَ بالحسنات ولا التغيير فآثر الغفلة والدعة ونام.

فاللهم من كان قد قصر في حقك واستهان بك وبهذا الشهر ولم يعرف قدرك وقدره، ولم يعلم فضيلته وكرمك وأجره، كنحو "إنه لي وأنا أجزي به".

ففيما تبقى منه تفضل عليهم بالهداية، واجعلها لهم البداية، وانعم عليهم بالولوج إلى رحاب الطاعات وحب العبادات، وانتشلهم من الغواية، وتلطف عليهم بالرعاية والدراية، وخذ بأيديهم إلى التبتل والانقياد والامتثال والخوف منك يا الله.

ربي قونا على مخالفة النفس وضعفها، ومكنِّا منها وعليها وفي مجاهدتها، واجعلها سائقة لنا إلى رضوانك، مسرعة بنا إليك يا عظيم شأنك.

أيها العزيز ها نحن اقتربنا على وداعه مرغمين، وأوشك هو على الرحيل ونحن محزنين، فالله الله فيما تبقى منه، لعلنا ننال فيهن الرحمة والمغفرة والعتق من النَّار والفوز بالجنة.

إن الشهر الفضيل عزيزي القارئ سيتجدد كل سنة، وسيتعاقب على الأمة مرات ومرات، ولكن لربما لن يلقانا لأنه تحت التراب مأوانا، فيارب اجعلنا ممن عفوت عنهم ورضيت.

إنه أيها الحبيب مع تسارع أيام شهر رمضان المبارك وانقضائها، ندرك تماماً أن أعمارنا هي الأخرى تنقضي، وسيأتي يوم لم يبقَ منها شيء نتمكن خلاله من العيش، فهل هذا الزائر لنا شهر الخيرات والبركات تعلمنا فيه ومنه شيئا، فما كان نصيب القرآن والصلوات والجود والإحسان فيه، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان أجودَ النَّاس، وكان أجود بالخير مِن الريحِ المُرسَلة في شهر رمضان، وكان جبريلُ يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيُدارسه القرآن.

إنِّه بعد هذه الأيام المُباركة سيأتي العيد، وهو حتماً سيكون مختلفاً عن السنوات الماضية، فالاحتفاء به كما كنَّا ليس واردا في ظل هذه الأزمة والجائحة وهذا المرض الفتاك، الذي غيَّر موازين البشر، وبدَّل نواميس الكون، وأصاب الأرض بالخوف والفزع والجزع والقلق والضيق والكرب، وغيَّر أنماط الحياة والعيش فيها، فيا سبحان الله أين كنَّا وأين صرنا، وما نعلم بالقادم كيف سيكون.

حقيقة علينا قارئي العزيز أن نتفكر في الأسباب وما آلت إليه مجريات الأمور، ونسعى فيما تبقى لنا من حياة أن تكون كلها لله، وأن تكون معظم أوقاتنا بذكره معمورة، وبالدعوة إليه جلَّ جلاله وبإحياء سنة الحبيب للمصطفى صلى الله عليه وسلم حياتنا مغمورة.

فلعلنا بعد ذلك ننال رحمة ربنا ويزيل عنَّا هذا الوباء، ويذهب بهذا الداء وتعود الحياة متجددة بالإيمان والصدق مع الله والتخلي عن كل ما يجلب سخطه، ونترك كل ما ينهانا عنه حتى نحشر مع زمرة المتقين والصالحين، انتظرناه بشوق وأتى، فكانت أيامه معدودة وساعاته محدودة، إنه شهر الخير والعطاء، وياربي لاقينا به أعواماً عديدة، وأزمنة مديدة، ونحن بخير وصحة وعافية وسلامة.

هذا وإلى أن ألقاكم في مقال قادم إن شاء الله، أترككم في رعاية الله، وتقبل الله صيامكم وقيامكم وصالحات أعمالكم، وكونوا بخير وصحة وعافية وسلامة.

تعليق عبر الفيس بوك