الصحافة في ميزان الحريات

د. محمد بن عوض المشيخي

أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري

تحتفل دول العالم باليوم العالمي لحرية الصحافة الذي يصادف الثالث من مايو من كل عام، وهو اليوم الذي حددته المنظمة الدولية للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو)، والتي تتخذ من العاصمة الفرنسية باريس مقرا لها. وقد أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1993م، الموافقة الرسمية ومباركة ذلك اليوم؛ وكذلك الإعلان الأممي الخاص بحرية الصحافة والذي يتضمن النص الآتي" إنّه لا يمكن تحقيق حرية الصحافة إلا من خلال ضمان بيئة إعلامية حرّة ومستقلّة وقائمة على التعدّدية. وهذا شرط مسبق لضمان أمن الصحافيين أثناء تأدية مهامهم، ولكفالة التحقيق في الجرائم ضد حرية الصحافة تحقيقاً سريعاً ودقيقًا".

يجب الاعتراف بأن هناك صراع لا ينتهي بين الحكومات التي تملك المعلومات والأسرار في أدراجها المغلقة، والعاملين في مهنة المتاعب، التي تقودهم في كثير من الأحيان إلى السجن أو الاستشهاد في سبيل حرية الكلمة، ونقل الحقائق وكشف المستور من الفساد. إن واقع الحال لا يُبشر بالخير؛ فالبيئة الإعلامية الجيدة مفقودة في عالمنا من الشرق إلى الغرب، وما تدعو له الأمم المتحدة بكل منظماتها المختلفة ليس إلا أمنيات وأحلام وردية لايُمكن لها أن تتحقق في الوقت الحالي بسبب طغيان أصحاب النفوذ والسلطة في مختلف قارات العالم.

والدليل على ما ذكرناه أعلاه؛ سقوط أكثر من خمسين صحفياً العام الماضي 2020. فقد سقط عشرة صحفيين بسبب تغطيتهم لقضايا فساد واختلاسات مالية، بينما تم قتل 4 صحفيين خلال إجرائهم أعمالا استقصائية في قضايا المافيا والجريمة وغسل الأموال. أما تغطية مظاهرات العراق فقد حصدت 7 صحفيين أبرياء خلال أدائهم الواجب.

أما الذين تمَّ احتجازهم ويعيشون في الوقت الحالي خلف القضبان مسلوبو الحرية والإرادة؛ فعددهم أربعمائة صحفي في مختلف دول العالم.  

نظرياً، عرفت الصحافة بأسماء عديدة؛ كالسلطة الرابعة، ومهنة المتاعب وصاحبة الجلالة، وكل هذه المفردات تحمل دلالات عظيمة، وتعبر عن رسالة الصحافة السامية ودورها الهام والريادي في نقل الحقيقة للناس بدون تلوين أو خدمة طرف من أطراف النفوذ أو المصلحة على حساب الخبر الصحيح والدقيق الذي ينتظره الجمهور ويتوقعه المجتمع من الصحافة الحرة. وهناك مقولة مقدسة في عالم الإعلام مفادها "الخبر مقدس والتحليل مباح" وتفسيرنا لهذه العبارة؛ بأن نقل الخبر الصحيح واجب مهني، بينما تحليل الكاتب أو الصحفي مباح ويعبر عن رأيه من خلال كتابة مقال، أو تفسير للأحداث ولكن لا يجوز هنا الخلط والتداخل بين رأي الصحفي والخبر الذي ينقله عبر الوسيلة الإعلامية التي يعمل فيها.

وفي هذه المناسبة المتعلقة بنضال الإعلاميين وكسرهم للقيود والظلم، أشير إلى الكتاب الذي خطه الصحفي المصري الراحل مصطفى أمين وهو في السجن في أعقاب ثورة 23 يوليو المصرية ويحمل عنوان "صاحبة الجلالة في الزنزانة". وبالطبع يحكي الكتاب فصلا من فصول معاناة الصحافة مع السلطة والرقابة، وعن المجهود الذي يبذله الإعلاميون وتضحياتهم من أجل أن يقدموا عملا رصينا وصحافة محترمة وجديرة باحترام الجمهور.

على الرغم من دخول مصطلح السلطة الرابعة في القرن الثامن عشر عالم الصحافة وحرية التعبير في بريطانيا، في أوج ثورات أوروبا ضد الظلم والاضطهاد بين طبقات المجتمع والأنظمة الحاكمة في ذلك الوقت، إلا أن سلطة الصحافة في مراقبة السلطات الأخرى، كالسلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية ظلت نسبية وغير حتمية، تعتمد بالدرجة الأولى على الإرادة السياسية لأنظمة الحكم ومدى تسامحها مع الصحفيين. ففي عهد مارجريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا الراحلة -على سبيل المثال- شهدت الساحة البريطانية صراعاً حاداً بين الصحافة والحكومة خاصة أثناء حرب جزر فوكلاند بين بريطانيا والأرجنتين، إذ منعت السيدة الحديدية التغطية الإعلامية للحرب واحتفظت بالجنود المقتولين في الثلاجات حتى يتم حسم المعركة لصالحها، وكان الهدف من ذلك السيطرة على الرأي العام البريطاني ومنعه من التظاهر ضد الحرب، كما قامت تاتشر بمصادرة كتاب "صائد الجواسيس" لمؤلفه بيتر رايت الذي كان يعمل في جهاز (MI6) للاستخبارات البريطانية في سابقة غير معهودة في دولة ظهرت فيها نظرية حرية الصحافة، وتصنف في مقدمة دول العالم في حرية التعبير.

ولا أخفيكم أنه يراودني الشك في بعض الأحيان بأنَّه لا توجد صحافة تتمتع بحرية مطلقة في هذا العالم، وأن العاملين في قطاع الإعلام، أصبح قدرهم المحتوم، أن يكونوا ضحايا للنفوذ السياسي وتابعين للسلطة التنفيذية وخدماً لها من حيث الترويج والتلميع والتغاضي عن كلمة الحق التي يُفترض أن تنشر عبر قنوات الإعلام المتاحة، فمراقبة السلطة التنفيذية غير مفعلة كما يجب في معظم الأحوال حتى في أعرق الدول الديمقراطية مثل الولايات المتحدة على الرغم من أن الصحف والقنوات التلفزيونية لا تتبع للحكومة في هذا البلد، ولكن هناك علاقة تبادل مصالح بين الطرفين. فالحكومة الفدرالية تملك الأسرار والمعلومات التي تخص بها وتسربها لبعض الصحف مثل (نيويورك تايمز وواشنطن بوست) وتحجبها عن الصحف الأخرى وهذا يحصل أيضاً مع شبكات التلفزة  الأمريكية الخاصة مثل (CNN) وغيرها. كما أن الصحف الأمريكية تحتاج للإعلانات الحكومية التي ترفد الصحف بمبالغ مالية كبيرة، وكذلك  الكونجرس الأمريكي هو مصدر التشريع الذي قد يطال حرية الصحافة على الرغم من وجود الدستور الأمريكي الذي يقدس حرية الصحافة بشكل عام. من هنا تنحني وسائل الإعلام في أحيان كثيرة لتحقيق احتياجاتها الاقتصادية والمعلوماتية وتتناسى هذه الوسائل المبادئ والقيم، ولعنا نتذكر جميعاً اعتذار صحيفة نيويورك تايمز لقرائها بعد غزو العراق عن نشرها أخبارا مضللة عن وجود أسلحة نووية في العراق.                            

عمانيا، احتلت السلطنة الترتيب الرابع خليجيا و133 عالميا ما بين 180 دولة، وذلك حسب تصنيف (مراسلون بلا حدود) لهذا العام 2021. وفي واقع الحال نطمح في قادم الأيام إلى تحقيق نتائج أفضل تتناسب مع مكانة هذا البلد العريق الذي يتميز بقيادة حكيمة يشار لها بالبنان في المنطقة، وكذلك تعتبر السلطنة في مقدمة دول العالم في التسامح واحترام الآخر.

ولا شك أنَّ سقف الحرية المسموح بها في البرامج الجماهيرية التي تناقش قضايا المجتمع بشكل عام في الإذاعات الخاصة معقولة بالمقارنة بدول المنطقة وعلى وجه الخصوص برنامجي "ساعة الظهيرة" و"كل الأسئلة"، وعلى الجانب الآخر اختفت البرامج الجادة من القنوات الرسمية، والتي كانت تناقش هموم الناس مثل؛ برنامج البث المباشر من إذاعة سلطنة عمان. أما الصحافة العمانية فتعيش أفضل أيامها على الرغم من وجود عقدة الرقابة الذاتية لدى معظم القائمين على هذه الصحف الحكومية منها والخاصة.

وفي الختام وجب التذكير بأنَّ احتلال السلطنة لهذا الموقع الذي لا يليق بمكانتها الحضارية بأي حال من الأحوال؛ له أسباب عديدة لعل أبرزها:

أولاً: ضيق صدر المسؤولين بما يكتب من نقد في وسائل التواصل الاجتماعي، مما يترتب على ذلك الاستدعاء الدائم للعديد من رواد التواصل الاجتماعي وتحويلهم في أحيان كثيرة إلى الجهات القضائية مما يضر بسمعة السلطنة لدى المنظمات الحقوقية في الغرب.

ثانياً: المنظمات الدولية المتعلقة بحرية الإعلام تعتبر القوانين والتشريعات الإعلامية من أهم المعايير المعتمدة في تقييم الصحافة وحرية الصحفيين في أي بلد في العالم.

ومن هنا أصبح من الضروريات التعجيل بإصدار قانون جديد للإعلام التقليدي والرقمي؛ على أن يناسب القانون الجديد المرحلة الحالية التي تعيشها السلطنة والعالم، ويمنح العاملين في قطاع الإعلام حقهم في الحماية القانونية وكسر عقدة الحصول على المعلومات وتداولها من مصادرها بدون وجود أي نوع من الرقابة الحكومية.