الثابت والمُتغير في ثقافتنا

تأثيرات المدنية بقيمها المادية والحداثية تؤثر على الأجيال الجديدة

الشخصية العمانية جُبلت على صفات وسمات تعكس سمو إنسانيتها

نظام الأفلاج ترجمة لروح التكاتف والحرص على استدامة البيئة

حاتم الطائي

تضرب قيم التكافل والتضامن والتعاون بجذورها العميقة في التربة الاجتماعية لهذا الوطن العزيز؛ حيث تتجلى الكثير من السمات والصفات في الشخصية العُمانية التي تعكس أصالتها والتزامها بما تربت عليه من عادات وما شبَّت عليه من ثوابت على المستويين الاجتماعي والوطني، وتوارثت الأجيال تلو الأجيال هذه الصفات على مدى القرون والعقود المُنصرمة.. لكن يُشير الواقع إلى أنَّ تأثيرات المدنية بقيمها المادية والحداثية، بدأت تُؤثر بشكل أو آخر على الأجيال الجديدة، فارضة عليهم قيمها الاستهلاكية والأنانية في عالم الإنترنت السريع.. فهل ما تعلمناه من أسلافنا وتربينا عليه عرضة للتآكل أو التَّراجع؟

الإجابة عن هذا السؤال لا يُمكن أن تكون بالإيجاب أو النفي؛ بل إنَّ الأمر يمكن أن نصفه بأنه أحد عوارض الزمن، وثمَّة تأثير واضح على الشخصية العُمانية، من المُتغيرات الاجتماعية والديموغرافية بل والسياسية على المستويين المحلي والعالمي. ومن هذا المنطلق يمكن القول إنَّ هذه الشخصية- التي ما زالت صفاتها وسماتها الرئيسية لم تتغير أو تتبدل- تواجه تحديات عدة، على مُختلف الصعد، وهذه التحديات ربما تُؤثر بدرجة ما على ما تتحلى به من صفات، أو تضغط على ما تتميز به من سمات. ولذلك عندما يُجري خبراء علم الاجتماع دراسة مجتمعية معينة، يختارون بعناية العينة المختارة لهذه الدراسة، ويضعون جملة من الظروف الموضوعية المحيطة بعناصر الدراسة، وآليات جمع المعلومات فيها، ومن بين هذه الآليات: النظر في الظروف المُصاحبة، والتوقيت الذي تُجرى فيه الدراسة، بل والمكان أيضاً، فالإنسان القاطن في بيئة صحراوية بعيداً عن المدينة المركزية، يختلف في طباعه وسماته عن ذلك الذي يعيش على ضفاف البحر، أو بجوار الفلج وسط الأراضي الزراعية.

وإذا ما سلَّطنا الضوء على ما تتميز به الشخصية العمانية من سمات وصفات توارثتها عبر الأجيال من السلف الصالح، لوجدنا أنها خالدة حتى الآن، وأضربُ أمثلة هنا، منها الوقف، والذي ما زال حتى وقتنا هذا يخدم العديد من أبناء هذا الوطن، فهناك من أوقف مالاً أو مزرعة أو عقارًا أو غير ذلك لله، رغبة منه في نيل الثواب من الله وأيضاً خدمة ًلبني وطنه ومساعدةً لهم على نوائب الدهر وتحدياته. ففي الماضي، كان لكل ولاية، وفي بعض الأحيان كل حي أو حلة، وقفًا في مختلف مناحي الحياة، فهناك وقف لمدارس القرآن الكريم- أو ما كان يُطلق عليها الكتاتيب- ووقف لعابر السبيل، ووقف لطلبة العلم، ووقف للأرامل ووقف للأيتام. هذه الأوقاف إلى جانب الثواب الديني الذي يتحصل عليه صاحب الوقف، إلا أنها تترجم حرصه على قيم التكافل الاجتماعي، والتَّعاون والتكاتف من أجل خدمة أبناء الوطن، وتفادي تعرضهم للضغوط بمفردهم، بل إنَّ كل امرء في هذا المجتمع، يُدرك جيدًا أن ثمَّة أشخاص آخرين لهم أيادٍ بيضاء سيقفون بجوارهم وقت الشدائد، ويساندونهم في ساعة العسرة، ويدعمونهم خلال السنوات العجاف.

منظومة اجتماعية أخرى تجسدت في المجتمع العماني منذ القدم، ألا وهو نظام الأفلاج.. فعلاوة على دوره الاقتصادي والبيئي من خلال توفير مورد مائي مُستدام طيلة العام وخلال فترات الجفاف والجدب، ثمة دور اجتماعي لنظام الأفلاج، يعكس أيضًا روح التضامن المجتمعي ويؤكد مدى الحرص على التكاتف بين أبناء المنطقة الواحدة؛ حيث يتشاركون بالعدل والمساواة المورد المائي في بلد يُصنّف بأنَّه من البلدان التي تُعاني الفقر المائي، لكن الشخصية العمانية عارضت هذا التصنيف دائمًا، فكان الفلج العماني هو النهر الجاري بين الولايات والمدن والقرى والبلدات، يجري كشريان حيوي مستدام يُرسل من فيضه الوفير، كل الخير والنماء والازدهار، لإعمار الأرض وإنباتها واستخراج خيراتها وطيباتها من المزروعات والمحاصيل.

سمة أخرى ترسخت في الوجدان العماني، وهي الثبات على الحق ونصرة الضعيف، فما من عُماني أو حتى غير عُماني يطلب المساعدة والنجدة من الإنسان العماني، إلا ويجده ملبيًا ومستجيبًا بقدر ما يستطيع أن يجود به، سواءً من مال أو نصح أو دعم وتحفيز بأي وسيلة كانت.

التاريخ البحري لعُمان يُبرهن على ما تميزت به الشخصية العمانية قديمًا، فتجربة السفر وركوب البحر والتواصل مع الحضارات الأخرى، في الهند وجنوب شرق آسيا وشرق أفريقيا، بما فيها من تنوع ثقافي وديني (ملحدون- وثنيون- نصارى) وغيرهم، وتعلموا الكثير من المهارات واكتسبوا الخبرات من تعاملهم مع العواصف في عرض البحر، وكل ذلك صقل هذه الشخصية، ومنحها خبرات حياتية لا مثيل لها، ولذلك نرى العماني يتحلى بثبات انفعالي كبير، وقدرة على التحكم في ردود أفعاله.

كما إن الشخصية العُمانية جُبلت على التحلي بالعصامية، فالتاجر العماني ومنذ قديم الزمان، عصاميٌ يعتمد على ذاته، وينمي تجارته بنفسه، من خلال عقد الصفقات بمهارة وكفاءة، وتعزيز التبادلات التجارية مع نظرائه، سواء داخل السلطنة أو خارجها. والنماذج الدالة على ذلك عديدة، وكلها تتفق على قاعدة واحدة: وهي أنَّ الإنسان العماني يتحلى بسمات وصفات تعينه على مواجهة الكثير من الأزمات، وتحمُّل العديد من الضغوط، وخير دليل على ذلك أنَّ العماني تحمّل على مر الزمان- وما زال- صعوبة التضاريس، بل طوعها لخدمته، واستغلها الاستغلال الأمثل، من أجل مواجهة صعوبات الحياة والتغلب عليها، وتوفير العيش الكريم له ولأسرته.

وإذا ما انتقلنا إلى ميزة أخرى من ميزات الشخصية العمانية، نجد الصبر خصلة أصيلة، وهذا الصفة لا تنفصل أبدًا عن باقي الصفات التي أشرنا إليها سلفًا، فالإنسان المتكاتف مع مجتمعه والمتعاون في كل دروب الخير والقادر على تجاوز على التحديات، هو بالضرورة إنسان صبور، ذو معدن أصيل يتجلى في وقت الشدائد، كما هو الحال في أزمنة الرخاء.

والأهم من ذلك كله، أن الشخصية العمانية مؤمنة بالتفاؤل، وأنَّ المستقبل أفضل حالًا من الحاضر، وأنَّ المحن ستزول، والضغوط ستتلاشى، وهذا اليقين القائم على إيمان صادق بالقضاء والقدر، من السمات المعززة لطبيعة الإنسان العماني، المعينة له على مُواجهة التحديات، فهو يواجه المصاعب على أمل الخروج من النفق عمَّا قريب، يُعاند الظروف ويطوعها لأجله من منطلق أنه سيتجاوزها في يوم ما.

فما أحوجنا اليوم إلى التَّحلي بهذه الصفات والسمات، التي ورثناها عن أجدادنا وآبائنا، وما أحوج جيل اليوم لها في ظل ما يتعرض له من ثقافات وأفكار ربما لا يناسب طبيعة المجتمع، خاصة في ظل حالة الميوعة الثقافية والانسلاخ من الأصول، والتخلي الطوعي عن القيم، وتآكل الهويات في زمن العولمة، وتضارب المعلومات في عصر شبكات التواصل الاجتماعي، والتزييف الممنهج في إساءة استخدام التقنيات الحديثة وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي..

وختامًا.. أوجه ندائي لكل إنسان عُماني أن يستذكر القيم الوطنية دائماً، وأن يُعلي من شأنها، وأن يضعها نصب عينيه، وأن يبحث عن الصفات والسمات العمانية الأصيلة، فإذا ما وجد نقصاناً أتمه، وإذا ما أدرك إعوجاجًا قومّه، فنحن الآن وفي الظروف المُحيطة بنا، في أمسّ الحاجة لكي ننهض بهذه القيم، ونُحيي ما خفت من صفاتنا الأصيلة، كي تمضي سفينة الوطن نحو مراسيها الآمنة، مُحققة الرخاء والنماء لكل من يعيش على هذا التراب الطاهر.