التاريخ والسياسة.. والنزعات القومية!

 

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

 

"الوطنية أن يأتي حبك لشعبك أولاً. أما القومية، فأنْ يأتي كُرهك لكل الشعوب عدا شعبك أولاً" - شارل ديغول.

*****

في دراسة تاريخ السياسة الدولية عبر وعظة وثقافة، لا غِنَى عنها لأي باحث في علم السياسة الشرعية، وكذلك العلوم الإنسانية والإجتماعية، خاصَّة عندما يسلِّط الضوء على أحداث جرت في التاريخ الحديث، تبرز عِدَّة اتجاهات ذات معايير شكلية وموضوعية؛ منها: الأيديولوجية، وكذلك التاريخية والسياسية، كاتجاه أول وثانٍ وثالث.. وهلمَّ جرا.

هنا.. سيكُون التركيز على بعض اتجاهات القانون السياسي الدولي، وهو الاتجاه الذي يتبناه بشكل أكبر القانونيون، ويتفق المعنيون بدراسة الظواهر السياسية على أشكالها المتعددة، على أن الصورة المثلى للمجتمعات السياسية هي الدولة القومية، وأي دارس للتاريخ أو السياسة سيرى أن الإمبراطوريات كانت تمثل مرتعا خصبا للحركات العرقية وغيرها من الحركات الانفصالية؛ نظرا لتشعُّبها وضِخَم المساحة واختلاف الثقافات وأحيانا الأديان، أما في ظل الدولة القومية -فكما أثبت التاريخ- لا مجال لمثل هذه التحركات، إلا بإستثناءات نادرة "الوحدة اليمنية بعد الانفصال، ومحاولات وفكرة إعادة الانفصال اللاحقة ولا تزال".

من الثورات التي ازدحمتْ صفحات كتب التاريخ بها: الثورة الفرنسية عام 1789م، والتي ارتبطت بفكرة الحقوق الطبيعية، نقلا عن فلاسفة العقد السياسي، وهي الفكرة التي بزغت في القرنين 17 و18م، في فكر كل من جون لوك الإنجليزي وجان جاك روسو الفرنسي، وكثيرون لديهم قناعة بأنَّ الثورة الفرنسية هي التي علمت العالم معنى القومية.

لكن فيما بعد، فإنَّ غزوات نابليون لأراضي أوروبا غداة نجاح الثورة الفرنسية، انحرفت عن مبادئ هذه الثورة، ثم جاءت التطورات اللاحقة من أجل تنظيم أوروبا، وعلى أثر ذلك انعقد مؤتمر فيينا 1815م، بعد حروب نابليون، لكن جاءت القررات مخيبة للتطلعات القومية لشعوب أوروبا، ولم تكن بحسب الآمال المعقودة. مكمن الخلل الذي سبَّب الغضب الشديد هو إقرار ما سُمِّي "بروتوكول تروباو" والذي يقضي بأن الدول التي تتغير حكوماتها نتيجة لثورة، تفقد عضويتها في الحلف الاوروبي، كما أعطى البروتوكول للدول الموقعة عليه حقَّ التدخل المسلَّح ضد الثورات لإعادة الاوضاع إلى ما كانت عليه قبل الثورات. ثم بدأت مساعي الفكرة القومية، وساعد في ترويجها وترسيخها في نفوس الشعوب الأوروبية وزكى الجهاد في سبيلها؛ اعتباران:

1- سياسة الكبت التي حبكها المؤتمرون في فيينا، ومنها كبت الفكرة القومية؛ مما أدى لانتشار الفكرة القومية في أصقاع أوروبا.

2- إحساس بعض الأمم التي وقعت فريسة للغزو النابليوني، وعلى رأسها ألمانيا، بأن تفتتها السياسي هو الذي مكن هذا الغزو منها.

لذلك؛ وُصف القرن التاسع عشر بأنه قرن القوميات، وبدأت الأحداث تأخذ منحى أشد؛ إذ نتيجة استقرار الوعي القومي ورسوخ الإيمان به ظهرت دولتان كبيرتان: ألمانيا وإيطاليا، عن طريق التفتيت بالتحرير أو الانقسام أو الانفصال، وعلى مدى 100 عام تقريبا منذ مؤتمر فيينا 1815م، جرى انفصام الرباط السياسي بين: بلجيكا وهولندا -السويد والنرويج- النمسا والمجر....وغيرها. وتمَّ تحرير اليونان وبلغاريا ورومانيا، وألبانيا من التبعية لسيادة تركيا، والتي كانت تئن في آخر فتراتها. وبعامل التحرر ثم الالتئام، ظهرت دول جديدة مثل يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا (سابقا)، وبعثت بولندا التي كانت مقسمة بين روسيا والنمسا.

أما أبرز الوحدات القومية التي ظهرت في القرن التاسع عشر، فهي الوحدتان الألمانية والإيطالية، وكذا الوحدات التي ظهرت في بلاد البلقان؛ مما يظهر أن النزعة القومية أشد تأثيرا على غيرها من النزعات، وهي نزعة يلتئم بها الخوف من المجهول بجانب الرغبة في الاحتماء بالجماعة من نفس العرق، قبل أن تكون نزعة أو فكرة سياسية. ولنا المثل في منظمات دولية لها نفس الاتجاه وإن بأشكال متعددة، وهل ننسى كيف ولماذا تم تأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية؟!

في دراسة تاريخ الأمم وتتابعات السياسة الدولية، تبدو الحقائق دامغة للمدقِّق بتفاصيل ما جرى وحيثيات السابق واللاحق ومن كان مع من، ومن انفصل عن من، وكيف التئمت أمم، وكيف تشتتت أمم.. ظروف الماضي لا غنى عن دراستها للاستفادة منها في تفسير مبينات وخفايا الحاضر، فالاتحاد السوفييتي السابق عندما انهار، أُعلن بعد ذلك بأيام قليلة عن قيام ثلاث دول؛ هي: لتوانيا وأستونيا ولاتفيا -التي تعرف بدول البلقان. فالوشائج العرقية تبقى وإن استمرَّ الكبت -أيا كانت قوة هذا الكبت- وبالتالي فالأجيال المتتالية سيكون العامل العرقي مسيرا لها. وفي حروب التسعينيات الدموية من القرن الماضي في يوغسلافيا (سابقا) كان القتل على الهوية؛ أي العرق أو الديانة. وفي رواندا ارتكبت أبشع المجازر البشرية لأسباب عرقية!

وفي الدول العصرية، يجب التركيز على الثقيف الجامع للجميع، المنضوي تحت راية الدولة، إذ يتعامل الجميع تحت قانون ولوائح لا تميز بين هذا وهذاك، فالعدالة هي أقوى ضامن لاستمرار أي بلد، والعدالة هي القاعدة الحقيقية للاستدامة والازدهار.