حتى لا يخدعنا الاقتصاديون

د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي *

أستمتع هذه الأيام بقراءة كتاب عنوانه "What Would the Great Economist Do?"؛ أي "ماذا باستطاعة الاقتصاديين العظماء فعله؟"، الكتاب من تأليف ليندا يويه، وصدر في عام 2018 عن دار بيكادور Picador للنشر. مؤلفة الكتاب مولودة في تايوان وتحمل الجنسيتين البريطانية والأمريكية، وهي اقتصادية ومراسلة لتليفزيون "بي.بي.سي" وتليفزيون بلومبيرج، وكاتبة ومحررة لعدة كتب ومقالات عن النمو الاقتصادي والتنمية، وهي إلى جانب ذلك تشغل مناصب أكاديمية رفيعة في جامعة أكسفورد، ومدرسة لندن للأعمال، ومدرسة لندن للاقتصاد.

تتناول ليندا يويه في كتابها نظريات وكتابات عدد من المفكرين والمنظرين الاقتصاديين منذ آدم سميث حتى روبرت سولو، ويتخلل ذلك آراء وأفكار اقتصاديين معاصرين، مثل جوزيف ستيغليتز، وبول كروغمان. يناقش الكتاب مدى انطباق نظريات وكتابات من أسمتهم الكاتبة "الاقتصاديون العظماء" على الواقع الحالي للاقتصاد، وماذا سيقولون أو يفعلون لو كانوا بيننا؟! اللافت أن كل الذين شملهم الكتاب هم من الذكور باستثناء امرأة واحدة هي جوان روبسون وهي اقتصادية بريطانية عاشت في الفترة 1903-1983، ولعل ذلك عائد إلى قلة عدد النساء اللائي لهن حضور في الدراسات أو النظريات الاقتصادية، وهذه ظاهرة تجدر دراستها، لا سيما على الصعيد العماني والعربي.

درست جوان روبنسون وعملت في جامعة كامبريدج واشتهرت بكتاباتها "اقتصاديات المنافسة غير التامة" "The economics of imperfect Competition" وتأثرت بعدد من الاقتصاديين، مثل آدم سميث وكارل ماركس وجون ماينرد كينز. صدر لها عدة كتب، منها كتاب بعنوان الفلسفة الاقتصادية The Economic Philosophy وذلك في عام 1962. في كتابها ذلك قالت روبنسون: "ليس الهدف من دراسة علم الاقتصاد اكتساب إجابات جاهزة على أسئلة اقتصادية، ولكن الهدف هو أن نتعلم كيف نتجنب أن يخدعنا الاقتصاديون".

اخترتُ مقولة روبنسون تلك للتأكيد على أهمية نشر الثقافة الاقتصادية، ليس فقط "لنتجنب أن يخدعنا الاقتصاديون"، ولكن لعلاقة الاقتصاد الوثيقة بالنواحي السياسية والاجتماعية والأمنية. إن عرض فكرة أو سياسة اقتصادية بصورة غير شفافة أو إساءة فهمها من الذين يتلقونها، له تبعات خطيرة، فهي إما قد تثير المجتمع، أو قد تصد المستثمرين عن الاستثمار، حيث ثبت أن الاقتصاد ليس مجرد أرقام صماء بل هو في جانب كبير منه إحساس، يتأثر بالعاطفة والمزاج. ونظرا لخطورة فهم الاقتصاد والسياسات المرتبطة به فلا بد من جعل المعرفة الاقتصادية "سلعة عامة"؛ مثل: الهواء والماء النقي والكهرباء والأمن، بإمكان الجميع الوصول اليها أو الحصول عليها، أو جعلها ثقافة عامة للتمتع بها، وذلك كما قال نزار قباني يوما عن الشعر  حين وصف دوره كشاعر "جعلتُ الشعر خبزاً يتناوله الجميع". لذلك؛ فإن على مؤسسات التعليم بكل مراحله، ووسائل الإعلام الرسمية والفاعلين في وسائل التواصل الاجتماعي العمل على التعريف بأساسيات الاقتصاد ومفاهيمه العامة؛ لأن تدني مستوى الثقافة الاقتصادية يجعل البعض من المجتمع يرتكب شططا أو يغامر في أمر إثمهُ أكبر من نفعه، أو يجعل آخرين يقعون في خداع ووهم. وتزداد الحاجة إلحاحا إلى نشر الثقافة الاقتصادية والتعريف بالجديد فيه مع بداية إدخال أو تطبيق سياسات جديدة تمس كل أو بعض فئات المجتمع، ومن ذلك على سبيل المثال: ضريبة القيمة المضافة، التي سيبدأ تطبيقها هذا الشهر، وهي أداة مالية مهمة يجهل أكثر الناس معناها ونطاق تطبيقها. لذلك؛ تجد البعض من الناس يقدم تفسيرات خاطئة لها أو يحسبها بطريقة غير صحية؛ مما قد يؤدي للغط وعواقب غير طيبة.

وحتى تنزل الثقافة الاقتصادية من عليائها، وأنها ثقافة من يتصورون أنهم نخبة المجتمع، أو مسرح للمتفذلكين أو المتشدقين، فإنه على وسائل الإعلام المرئية أو المسموعة أو المقروءة أن تقوم بحملة واسعة للتعريف ببعض الجوانب النظرية في الاقتصاد، وذلك من خلال برامج أو مقالات أو تعريفات تنشرها. ويمكن أن يكون ذلك من خلال حلقات تليفزيونية، تبدأ أولا بالتعريف بالموضوع ثم تناوله بالنقاش والتحليل من قبل مختصين في الجانبين الأكاديمي والتطبيقي. ولا يكفي في مثل هذه البرامج أن يكون من يدير الحوار أو يطرح الأسئلة إعلاميا أو صحفيا، بل يجب أن يكون كذلك محاورا مختصا في الاقتصاد وملما بجوانبه النظرية والتطبيقية. وحبذا كذلك لو تقوم الصحف باختيار مادة أو موضوع اقتصادي معين يوميا والتعريف به بصورة مختصرة في شكل فهرس أو مَسْرَد glossary (معجم المصطلحات) من أجل الإسهام في جهود نشر الثقافة الاقتصادية. ومن هنا؛ تأتي أهمية تكوين أو تأهيل إعلاميين اقتصاديين عن طريق إلحاقهم ببرامج تدريبية متخصصة.

هناك أمثلة كثير على عدم الإلمام بالمفاهيم الاقتصادية، وهو ما يتسبب في الخلط بينها، خاصة عند ورود خبر أو طرح موضوع اقتصادي للنقاش، سواء في وسائل الإعلام أو وسائل التواصل الاجتماعى.

ومن أبرز الأمثلة على ذلك:

- الناتج المحلي الإجمالي والميزانية العامة؛ فهناك فارق كبير بين المفهومين من الناحية النظرية والعملية، فالناتج المحلي الإجمالي هي جميع ما ينتجه المجتمع من سلع وخدمات، سواء أنتجتها أو قدمتها الحكومة أو القطاع الخاص، حتى إنَّ بعض الاقتصاديين يرى أن خدمة ربات البيوت لبيوتهن يجب أن تحتسب ضمن الناتج المحلي الإجمالي. أما الميزانية العامة، فهي إيرادات ومصروفات الحكومة، وهي لا تمثل إلا جزءا من الناتج المحلي الإجمالي، بل إنَّ الوضع في اقتصادات السوق يكون أقوى كلما قلت مساهمة الحكومة وزادت مساهمة القطاع الخاص فيه.

- الميزان التجاري وميزان المدفوعات؛ حيث إن هناك في المجتمع من لا يميز بين هذين الميزانين، فالميزان التجاري يمثل الواردات والصادرات من السلع، مثل صادرات النفط أوغيره من السلع المنتجة محليا أو المعاد تصديرها. أما ميزان المدفوعات؛ فيشمل -إضافة إلى الميزان التجاري- التحويلات النقدية من الداخل إلى الخارج وبالعكس، مثل إيرادات الاستثمارات الخارجية وتحويلات أرباح الشركات أو تحويلات العمالة الوافدة أو غيرها.

- ثمة عدم وضوح أيضا لدى غير المختصين في مفاهيم اقتصادية، مثل: التضخم من حيث تعريفه وعلاقته بمستويات الأجور، والركود وعلاقته بالإنفاق الحكومي والضرائب. ولا بُد كذلك من معرفة الفارق بين النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة، أو التنمية بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، إلى غير ذلك من المفاهيم التي تستجد في علم الاقتصاد وعالم الأعمال.

لقد وفَّرت التقانة الحديثة، خاصة وسائل التواصل الاجتماعي، طرقاً كثيرة لنشر المعرفة والثقافة، ويمكن للجمعية الاقتصادية العمانية الإسهام في نشر المعرفة والثقافة الاقتصادية بأن تتعاون مع مترجمين مختصين لترجمة بعض المصطلحات الاقتصادية الجديدة، ثم نشرها عبر وسائل التواصل الإجتماعي، وذلك لمساعدة غير المختصين على فهمها.

 

* باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية

تعليق عبر الفيس بوك