نفثة مصدور !! *

 

 

الشيخ أحمد الفلاحي

 

 

الله أكبر جلت أيها العرب
 

 

مصيبة نزلت أهوالها كرب
 

الله أكبر من شنعاء قاصمة
 

 

دهياء كادت لها الأكوان تنقلب
 

هذي السماء بنيران محرقة
 

 

تصلي العراق جحيما كله لهب
 

يا للسموات في دار الرشيد غدت
 

 

أمطارها النار ليس المزن ينسكب
 

كصيحة لـ"ابن حمل"([1]) إذ رجا ودعا
 

 

للقوم بالنار تسقيهم وما نشبوا
 

أو مثل "عاد"([2]) الأولى جاءت غمامتهم
 

 

سوداء لا الغيث مدرارا كما ارتقبوا
 

هوا طل المزن في بغداد عادتها
 

 

ماء الحياة تغاديها به صبب
 

ما عودتها من اليحموم تمطرها
 

 

موتا تباد به الدنيا وتغتصب
 

سحائب الخير من بغداد يرسلها
 

 

"هارون"([3])جوابة للخير تصطحب
 

فكيف تصبح نيرانا لها حمم
 

 

من بعد ما كان منها النفع يكتسب
 

بغداد ترنو لنحو الأفق معتكرا
 

 

"إن السماء ترجى حين تحتجب"([4])
 

مهلا سماء بلاد الرافدين فما
 

 

عادات مزنك بالنيران يلتهب
 

يا ويح دجلة إذ تسقى بوارية
 

 

ويح الفرات توالت نحوه النوب
 

ويح العروبة في النهرين إذ حرقا
 

 

وإذ ذوى منهما الرقراق والحبب
 

وإذ هوت بصواريخ العدى مزقا
 

 

أم الحضارات إن شادوا وإن كتبوا
 

حضارة أسست للفكر مبدأه
 

 

على خطاها الورى في سيرهم ذهبوا
 

كل الحضارات من إشراق مبزغها
 

 

جاءت وحسبك بالخط الذي اكتتبوا
 

*    *    *

 

الطائرات كأسراب الجراد بدت
 

 

على السماء ومنها النور منحجب
 

والقاذفات تشق الكون صيحتها
 

 

إن أرعدت في فضاء الجو تنجذب
 

تلقي قنابلها موتا بلحظته
 

 

للجامدات وللأحياء يستلب
 

يا للقنابل كم دكت وكم هدمت
 

 

وكم أبادت ولم تحفل بمن نكبوا
 

وللصواريخ في الأجواء زلزلة
 

 

كما الصواعق في أضوائها النصب
 

تناثرت زمرا في كل زاوية
 

 

وضاق منها بصدر الأرض مرتحب
 

مثل الشياطين إذ تهوي مدمدمة
 

 

لم يُنج من شرها حصن ولا هرب
 

دبابة وألوف مثلها انطلقت
 

 

في الأرض تزحف أرتالا لها جلب
 

تجر هيكلها نشوى مزمجرة
 

 

للأرض من سيرها خوف ومضطرب
 

صب الحديد بأطنان لصنعتها
 

 

تمشي الهوينى بضغط الثقل تصطخب
 

مدافع كجريد النخل حاملة
 

 

كأنها الفيل في خرطومه الغلب
 

تشابه الجن في أوصاف واصفهم
 

 

 

إن ثار ثائرهم يوما وإن رهبوا
 

تدير أفواهها الشوها قذائفها
 

 

للآمنين فناء حل ينسكب
 

*    *    *

أرض السواد سواد كالظلام بها
 

 

وقادة العرب صمتا أمره عجب
 

هذا الإمام علي من سما وعلا
 

 

جاءوا لمشهده بالبغي واقتربوا
 

ونجله السبط من فاضت مكارمه
 

 

ساروا إليه ولم يخشوا لما ارتكبوا
 

أبو حنيفة دكوا أرض مرقده
 

 

وقبر جابر في أطباقه الغضب
 

أين العروبة أين العرب ما فعلوا
 

 

بغداد تصرخ والأقوام ما وثبوا
 

يا للشهامة يا للنخوة انطلقي
 

 

عز النصير وعزت نجدة تثب
 

أين الجيوش قعود في قواعدها
 

 

ما حركتها العدى في بغيهم ضربوا
 

أين السلاح بئالاف مؤلفة
 

 

من الملايين لم تسمع له خطب
 

*    *    *

أقول للبصرة الغراء يا ألقا
 

 

بالنور ينضح مهما مرت الحقب
 

أين العلوم التي أسست معهدها
 

 

في كل فن تبدت للورى كتب
 

أين الأئمة والأعلام موقعهم
 

 

وأين ميراثهم ينتاشه السلب
 

وأنجم الشعر ماذا نال زهرتها
 

 

وما دهى نورها؟ هل مسه وصب؟
 

تتابعوا في حياة الناس سلسلة
 

 

من سالف الدهر أو من عصرنا حسبوا
 

"أبو فرات" و"سياب" و"أحمدهم"([5])
 

 

ذاك الذي الشعرا من فيضه شربوا
 

تقاتل البصرة الغراء صامدة
 

 

للمعتدين لها في دحرهم أرب
 

وتستميت دفاعا عن كرامتها
 

 

وعن تراث وعن مجد له طنب
 

*    *    *

توا ثبت عزمات القوم صادقة
 

 

وما انثنت رهبا والأمر محتزب
 

خاضوا المعارك في صبر وفي جلد
 

 

وأذهلوا الخصم من عزم به دأبوا
 

باعوا النفوس رخاصا لافتدى وطن
 

 

وللدماء شروق وهي تنثعب
 

أرواحهم أزهقوها حرة ذهبت
 

 

إلى الخلود رضيات لها احتسبوا
 

ما توا كراما وما ذلوا وما وهنوا
 

 

رضا الإله وعز في الدنا طلبوا
 

تاريخ يعرب سجل إن مررت بهم
 

 

بأحرف النور للمجد الذي رغبوا
 

*    *    *

نحو العراق غزاة السوء ما برحوا
 

 

منذ التتار وهولاكو ومن نهبوا
 

ومنذ أن أرسل الرومان جحفلهم
 

 

وقبلهم هجمة الإغريق إذ حربوا
 

غزو وغزو تحدته مكابرة
 

 

عبر الدهور فظلت والعدى هربوا
 

تعيش خالدة والدهر يحرسها
 

 

تشيد بنيانها بالفخر مصطحب
 

تبقى على العلم والإيمان ثابتة
 

 

بالعزم والجد تُعلي المجد ينتصب
 

أما الغزاة فقد زالوا وما ذكروا
 

 

طواهم الدهر في ظلمائه انقلبوا
 

أخبارهم بحريق الكتب شاهرة
 

 

وبالخراب ديارا دمروا سلبوا
 

واليوم قد هجموا قفوا لسالفهم
 

 

الكتب محروقة والدار تنتهب
 

وفي غد وعراق العرب شامخة
 

 

ترى الغزاة بعار الخزي قد حصبوا
 

*    *    *

من قلبي الملتظي  نارا مؤججة
 

 

أهدي التحية فيها الحب ينسرب
 

نحو العراق ونخل في جنائنه
 

 

والشط والقوم فيه سادة نجب
 

مني ومن قومي الأحرار من بلدي
 

 

عمان للعرب أصل كم لها انتسبوا
 

أواصر بيننا تزداد لحمتها
 

 

منذ العصور الخوالي نحن نقترب
 

من عهد"سرجون"([6])حتى عصرنا وصلت

 

 

إذ "أحمد"([7]) الشهم للأسطول ينتدب
 

كنا هناك غداة البصرة ([8]) ابتنيت
 

 

ومن "أبي صفرة"([9]) فيها لنا سبب
 

يقود جحفلها الجرار غايته
 

 

رفع اللوا فوقها والنصر مقترب
 

*    *    *

و"جابر  وربيع([10])" والرفاق سموا
 

 

بفضلهم للهدى والعلم قد صحبوا
 

"ونجل زوزان"([11]) إذ كانت صحار له
 

 

قصدا و"ابن دريد"([12]) همه العرب
 

و"ألف ليلة"([13]) والبحر الفسيح لها
 

 

من بصرة لصحار موجه لجب
 

"شوقي"([14]) يقول بأن الجرح وحدنا
 

 

وقولـه الحق لم تلحق به الريب
 

تحية من عمان بالوفا قرنت
 

 

إلى العراق وهول الدهر يضطرب
 

9/4/ 2003

 

 

 

* أنا لست بشاعر ولكنها صرخة الصدمة والألم.

 

 

 

([1]) إشارة إلى بيت زياد بن حمل الذي يقول فيه داعيا على قبائل يكرههن بمطر من النار

 "إذا سقى الله أرضا صوب غادية *** فلا سقاهن إلا النار تضطرم"

 

([2])إشارة إلى قصة قوم عاد الذين أرسلوا وفدهم إلى الكعبة لطلب المطر فاشتغل الوفد باللهو في مكة؛ فكان أن جاءتهم السحب السوداء المحملة بالعذاب والنقمة بدلا من الماء الذين كانوا يرتقبونه، وقد وردت أشعار هذه القصة في كتب التراث و"قيل" ليس اسمه، وإنما لقبه نسبة إلى الأقيال الذين هم السادة وهو هنا زعيم الوفد وقد ورد هذا البيت ضمن أبيات في سياق القصة.

ألا يا "قيل" ويحك قم فهينم *** لعل الله يرزقنا غماما

 

([3])الإشارة إلى الكلمة المأثورة عن هارون الرشيد وهو يقول مخاطبا سحابة في الجو: "اذهبي حيث شئتي فخراجك عائد إلينا"، والمعنى أن سحابة بغداد كانت سحابة خير تنتج خيرا أينما حلت وبعض خيرها عائد إلى بغداد نفسها لأن من نظرته للخير فالخير سيأتيه.

 

([4])ما بين قوسين عجز بيت أبي تمام القائل "ليس الحجاب بمقص عنك لي أملا *** إن السماء ترجى حين تحتجب"، من أبياته التي يعاتب فيها الأمير -أبودلف- وزير الخليفة المأمون، وقد حجبه عن الدخول إليه، والتي مطلعها: "صبرا على المطل ما لم يتله الكذب *** فللخطوب إذا سامحتها عقب"، ولا علاقة للتضمين هنا بأصل معنى البيت، وإنما أخذ عجز البيت ليرمز إلى تلبد سماء بغداد بغيوم ليست هي الغيوم التي يرتجى منها المطر كما هو المعتاد .

 

([5])"السياب" هو شاعر العراق المجدد، و"أبو فرات" هو الجواهري الشاعر الضخم، وأحمد هنا هو"المتنبي" شاعر العربية الفريد الذي ما برح الشعراء ينهلون من فيض شاعريته التي لا تنتهي لسعتها وعذوبتها وعمقها.

 

([6])سرجون الأكادي من ملوك العراق القدماء، وقد وجد في الرقوم المسمارية أنه كان على صلات وثيقة مع عمان في ذلك العصر السحيق.

 

([7])الإشارة إلى أسطول الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي الذي ذهب لإنجاد البصرة حين استغاثت به.

 

([8])ذكروا أن أزد عمان ممن أسهم في بناء البصرة حين أمر عمر بن الخطاب بإنشائها وكانت لهم أقسام خاصة بهم فيها.

 

([9])هو المهلب بن أبي صفرة الأزدي وكان عمانيا، ارتفع شانه في عهد بني أمية، واشتهر بحروبه مع الخوارج، وقد نسبت البصرة إليه فقيل لها بصرة المهلب.

 

([10])الإمام جابر بن زيد وتلميذه الإمام الربيع بن حبيب، وهما من أئمة العمانيين، كما أنهما من أئمة الإسلام بعامة، وقد عاشا في البصرة دهرا طويلا وفي ترابها دفن الإمام جابر في حين عاد الإمام الربيع إلى وطنه عمان ودفن في بلدته "غضفان" في لوى.

 

([11])المقصود علي بن زوزان الصحاري الذي استقر في البصرة، وقال أبياتا رائعة في التشوق إلى مدينته صحار، أثبتها ياقوت الحموي في كتابه "معجم البلدان" عند ذكره لصحار..

 

 

([12])هو إمام اللغة ابن دريد، وقد عرفت أشعاره في عُمان واعتزازه بالعرب في مقصورته المطولة؛ حيث يقول:

       "وقسما بالشم من يعرب هل *** لمقسم من بعد هذا منتهى"

   وهو عماني استقر بالعراق وأشاد بأهلها وأخلص لها إخلاصه لوطنه وأهله

 

([13])كثيرا ما تبدأ أو تنتهي رحلات السفر في حكايات "ألف ليلة وليلة" في ميناءي صحار أو البصرة.

 

([14])الإشارة إلى بيت "شوقي" الشهير من قصيدته في مناسبة احتفال مبايعته أميرا للشعر العربي بمدينة القاهرة عام 1927م: "كلما أن بالعراق جريح         لمس الشرق جرحه في عمانه"

          وهو يربط بين العراق وعمان في إحساسهما بالجرح الواحد.

تعليق عبر الفيس بوك