إلى أكسجيني

سعيدة البرعمي

أُميل بوجهي من سريري نحو نافذة غرفة العزل، الحرية في الخارج تناديني، تمايل أغصان أشجار النخيل هو أكثر ما يلفت نظري، يحرك الهواء أغصانها المتشابكة؛ فتهتز بزهو رشيق، فتطلّ من بينها زرقة السماء.. يُذكِّرني المشهد بذراعيْ والدتي عندما تناديني وأنا صغيرة وهي تصفِّق لي بيديها مبتسمة، وتفردهما في الهواء وهي تقول: "تالي تالي"، فأُبادلها نفس الابتسامة وأطير إلى حضنها بقوة خارقة، وُجِدتْ فقط في أفلام الكرتون.

تقسيمات جذوع النخيل الهندسية التي شقَّت مسكنها في عمق الأرض منذ ليونتها إلى أن اشتدَّ عودها في عمق ظفار بكل فخر، حكت لي ما معنى الصمود، وما معنى العطاء.

لم أفكر يوما في الكتابة عن هذا المرض ليس تجاهلا مني؛ لكنه أُشْبِعَ بالكتابة واختلاف وجهات النظر، ولن أتطرّق إليه ولن أصف معاناتي معه، حديثي فقط عن شوقي لأميّ (أكسجيني) الذي افتقدته وأنا بين زجاجات الأكسجين التي تعبث برئتي. تباً لكل ما حال بيني وبينك وتباً لحرب من هذا النوع، وتبا لكل من يعمل على دحض الحقائق ويقول: "كورونا كذبة".

ظهرت نتيجة المسحة، وغادرت نافذتي إلى تلقّي العلاج في غرفة تخلو من النوافذ تضج بحياة الأنابيب والأجهزة الملّونة وأصوات الأجراس وضجيج وأنين المرضى، حياة بعيدة تماما عن تلك التي كانت خلف النافذة. لا حرية ولا أغصان تتمايل؛ ولكن استقرّ مشهد صمود أشجار النارجيل في ذهني، كي نحظى بمزيد من الحرية يُتطلّب منا مزيد من الصمود.

من هُنا، من غرفة الأكسجين، تحية إجلال وتقدير وحبّ وثناء إلى "أكسجيني الأزلي" لأميّ  الغالية، بنت سعيد بن سهيل، قُبلاتي تحتضن خُفيها، وكلّ شبر رميض كان قد لفح خفيها الحافيتين في هجير الشمس، في ذلك الزمن الغابر، وهي تجلبُ الماء لتسقي العابر والمقاتل والجار ومن ثمّ الضيف والأبناء، تحية لعيون الماء التي جادت بها الأرض على البؤساء، على ضحايا الفقر والفكر والجهل والاستبداد. تحية للنخلة بنوعيها التي جادت بها الأرض على البؤساء، أكلوا منها التمور، وشربوا من ثمار نارجيلها، واستخدموا منها أواني وفنجاجين. تحية للأمهات في عهد أمي، اللائي لم يدركن عصر السناب، وكان سنابهن خلق الحياة من النخلة، والناقة، والبقر والغنم، حفرن الأرض في مواسم الخريف، من كل عام غرسن بأيديهن الكريمة الحياة، وذهبن لحصادها في وقت الحصاد، يتبادلن الأحاديث والأهازيج مبتهجات بموسم الحصاد، لعام قادم. دبغن الجلود واتخذنها أثاثا وزينة لمنازلهن التي لا تغلق أبدا، ولم تعرف لغة الأجراس. (قفعن) السعف ولم تكن أوانيهن من أجود الماركات.

-----------------

المفردات: "تالي تالي" (أيّ: عندي عندي).

تعليق عبر الفيس بوك