مفهوم الرِّسالية في حياتنا

حاتم الطائي

عرف المجتمعُ الإنساني على مرِّ التاريخ مفهوم "الرسالية" في حدود مُعيَّنة، ولم يتسع إلى الآفاق الرحبة المأمولة ليعم الخير وتنتشر القيم المُثلى في أنحاء العالم، لكننا وفي ظل المتغيرات الراهنة التي تعصفُ بالعالم، والتوحُّش الحاصل في المنظومة الرأسمالية العالمية، فإنَّ علينا إمعانَ النظر وتدبُّر هذا المفهوم عميق الدلالات، قوي المعنى.

فالتحولات العنيفة التي شهدها العالم خلال العقود الماضية، خاصَّة مع تضخم الرأسمالية، ليس فقط كمنظومة اقتصادية تتحكم في كل شيء، لكن أيضا -للأسف- كمجموعة من القيم السلبية السالبة لإنسانية الإنسان، فكانت النتيجة مُجتمعات في مُختلف القارات، تتباين في العديد من التفاصيل، لكنها تتفق في رؤيتهم القاصرة والدنيا للحياة، رؤية مُستوحاة من منظور الرأسمالية والمادية العدمية، التي لا ترى سوى السعادة المحدودة المتمثلة في جني الأموال وتكنيز الذهب والفضة، لا لأجل الإصلاح في الأرض والإنفاق على مُختلف مصارف الخير والعطاء، بل بهدف الاستحواذ والهيمنة، فبات عالم اليوم لا يُؤمن إلا بلغة الأموال، ولا ينتهج سوى الجشع والرغبة في ابتلاع الآخر، وما حرب اللقاحات الدائرة الآن في خضم أزمة كورونا العالمية، إلا تجسيدا لما آلت إليه حال عالمنا اليوم.

ولا شكَّ أنَّ التحلِّي بالرسالية لا يتطلب أن يكون المرء منا نبيًّا أو شيخًا أو عالمًا أو حتى فيلسوفا؛ بل إنَّ الأمر برُمته يرتكز على التحلي بالإنسانية؛ فالدور الأساسي والرئيس للإنسان على هذا الكوكب يتمثَّل في أداء الرسالة التي كلَّفه بها الخالق عز وجل، وهي رسالة سامية، عُنوانها التعمير وبناء الحضارة، وتنمية المجتمعات، وليس تحقيق المصالح المادية على حساب الآخرين! لذلك؛ فعندما أخذ مفهوم المسؤولية الاجتماعية في الانتشار قبل عقديْن من اليوم، وبلغ مرتبة متقدمة خلال السنوات الأخيرة، استشعر الكثيرون ممن يؤمنون بمفهوم الرسالية الراحة والسكينة، واطمأنوا إلى أنَّ الضمير العالمي لم يمُت بعد، وأنَّ إنسانية الإنسان ستفوز حتى لو واصل الماديون الرأسماليون مُخططاتهم للحط من القيم النبيلة، وعلى رأسها العطاء والمنح بسخاء.

وعلى الرغم من هذا التوجُّه الرأسمالي المادي الذي يبدو مُهيمنا على العالم بأسره، حتى في وطننا، إلا أننا نظل مجتمعا متماسكا بقيمه الأصيلة الخالصة، فأينما نولي وجهنا شطر أي مدينة أو قرية عمانية، نجد قيم التآزر والتلاحم والدعم، وتقديم يد العون والمساعدة حاضرة بقوة، وما الأعمال الخيرية التي تعم أرجاء وطننا سوى تجسيد لتلك القيم العمانية النبيلة. وكذا الحال بالنسبة لمؤسسات القطاع الخاص، التي نفَّذت -ولا تزال- العديد من المشاريع النوعية في مختلف ولايات السلطنة. لكن في المقابل، يظل مفهوم المسؤولية الاجتماعية بحاجة إلى تعميقه؛ من خلال دمجه مع مفهوم الرسالية؛ إذ نأمل من كل مؤسسة تعكف على إنشاء مشروع ما ضمن برامجها للمسؤولية الاجتماعية، أن تضع نُصب أعينها أيضا الدور الرسالي لها في المجتمع، فليس الهدف مثلا صيانة فلج هنا أو إعادة تأهيل قلعة هناك، أو حتى توفير حواسيب إلكترونية لطلاب مدرسة؛ بل إنَّ الغاية الأسمى من صيانة الفلج ينبغي أن تكون "عمارة الأرض" وصون المقدرات الوطنية، وليس فقط المساعدة في توصيل المياه، كما أنَّ تأهيل المواقع التراثية يتعيَّن أن تكون غايته الحفاظ على التاريخ، وتسليط الضوء على عظم القادة البواسل الذين شيَّدوا هذه المواقع في قديم الزمان.

إذن؛ نحن نتحدَّث عن رسالية الإنسان، تلك الرسالية التي نصَّ عليها القرآن الكريم، عندما خاطب رب العزة نبيه المصطفى قائلا: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ"، وعندما نتأمل في معاني هذه الآية الكريمة يتضح لنا أنها دعوة ربانية صريحة لكي نقتدي بالنبي الكريم في حياتنا، وأنْ نكون نحن أيضا رحمة لغيرنا، وأن نتعاطى برفق مع شؤون حياتنا اليومية ومع الآخرين، وأن نبحث عن المشترك الإنساني الذي يجمعنا، لا الذي يفرقنا.

وختامًا.. إن المطلوب منا جميعا أن نرفع من مستوى المسؤولية الوطنية والاجتماعية الملقاة على عاتق كل فرد وكل مؤسسة، وأن نُعلي من شأن مفهوم الرسالية في حياتنا، فلا يُمكن أن يعيش الإنسان في مجتمعات مادية ورأسمالية ويحقق السعادة؛ لأنها ستكون مؤقتة وزائلة بعد وقت قصير، لكن السعادة الحقيقية التي يجب أن ينشدها المرء تتمثل في أداء الرسالة التي كلفه به خالقه، وهي عمارة الأرض بغض النظر عن كم من الريالات ستجني، فيكفي أن تعيش سعيدا ومعك ريال واحد، وألا تحيا تعيسًا تملك من الكنوز ما لا تحصيه الخزائن!!