الجامعات وقطاع النفط

 

د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي *

العلاقة بين الجامعات والبحث العلمي وبين المستثمرين والشركات، وحاجتهم لتطوير التقانة، علاقة قديمة ومتجددة، وقد أكدت هذه العلاقة ورسختها الثورات الصناعية المتتالية، ليس بدءًا بالآلة البخارية ولا انتهاءً بالروبوت والذكاء الصناعي، لكنها علاقة حتمية لا غِنى عنها لكل الأطراف الطامحة إلى التجديد والتقدم.

ما يُميز قطاع النفط والغاز أنه يجمع بين كثير من خصائص واحتياجات قطاع الصناعات الاستخراجية وقطاع الصناعية التحويلية؛ حيث إنَّ استكشاف النفط واستخراجه يحتاج في آن معاً إلى وسائل تدبير "لوجستية"، وإلى نظم وبرمجيات، وإلى مواد وعمليات صناعية متنوعة، بما في ذلك تحويله من حالة فيزيائية إلى حالة فيزيائية أخرى؛ مثل تحويل الغاز إلى سائل أو العكس، وهذه جميعا تحتاج لبحث وتطوير مستمرين، وإلى حلول عاجلة للمشكلات التي تطرأ. لذلك؛ فإنَّ هذا القطاع يوفر بيئة خصبة لتعاون علمي مثمر بين الشركات العاملة فيه وبين الجامعات. وهناك على الأقل ثلاثة أسباب تؤكد أهمية ذلك التعاون؛ السبب الأول هو أن قطاع النفط يحتاج باستمرار إلى تقانة حديثة، من الاستكشاف مرورا بالاستخراج ثم النقل والتصدير. السبب الثاني: أن لدى الجامعات رأس مال بشري مؤهلا لابتكار الحلول المناسبة لسد تلك الحاجة. أما السبب الثالث، فهو: توفر الموارد المالية لدى شركات النفط، وهي معروف عنها أنها تنفق بسخاء أو ببذخ سواء على احتياجاتها وأنشطتها الانتاجية أو للترفيه على العاملين فيها.

كان يُعاب على الشركات العاملة في قطاع النفط أنها تسبَّبت في تفاقم ما يعرف بالثنائية الاقتصادية economic dualism، خاصة في البلدان النامية والبلدان الأقل نموا. ومن مظاهر الثنائية الاقتصادية استخدام تقانة متطورة في قطاع النفط مع بقاء قطاعات أخرى في الاقتصاد؛ مثل: قطاع الزراعة، معتمدة على تقانة تقليدية قلما تطورت عبر السنين. وقد زادت النظرة سوءًا إلى شركات النفط، خاصة في البلدان النامية، لعدم إسهامها بما فيه الكفاية في نقل التقانة أو في تطوير تلك القطاعات وزيادة إنتاجيتها.

وفي عُمان، بدأت شركات النفط عمليات الاستكشاف ثم تصدير النفط منذ عدة عقود، لكنَّ إسهام هذه الشركات في تطوير التقانة، خاصة في القطاعات والأنشطة غير النفطية، لم يبدأ إلا في السنوات الأخيرة من خلال محاولات للتعاون بين بعض الشركات والجامعات، كان معظمها ضمن برامج المسؤولية الاجتماعية للشركات وليس في إطار جهود مؤسسية بين الجامعات والشركات لنقل التقانة وتطويرها في السلطنة. ومن تلك المحاولات قيام بعض الشركات بالمساعدة في تأسيس مراكز ومختبرات للبحث في قطاع النفط وغيره في بعض الجامعات والكليات الجامعية، كما قدَّمت بعض الشركات أيضا منحاً دراسية لبعض الطلاب ولبعض البرامج البحثية.

ومِمَّا لا شك أنَّ لبعض تلك المحاولات عدة إيجابيات، لكنه لا بد من إجراء تقييم لمعرفة مدى النجاح الذي تحقق في مجال نقل التقانة وتطويرها؛ سواء في قطاع النفط أو في غيره من القطاعات. وبغض النظر عن مدى نجاح أو قصور التعاون بين الجامعات والشركات في هذا المجال، ومن أجل أن يكون ذلك التعاون مُستداما؛ فمن المهم أن لا يكون ضمن برامج المسؤولية الاجتماعية للشركات، بل يجب أن يكون مستقلا وفي إطار البرامج البحثية للجامعات وضمن البرامج الاستثمارية للشركات؛ لأنَّ تطوير التقانة هدف وطني يجب على الأطراف المستفيدة منه الاستثمار فيه ومن أجله، ويجب أن لا ينظر للتعاون فيه كتبرع أو معونة، وهو ما قد يصعِّب على الشركات استدامتها بسبب تأثر برامج المسؤولية الاجتماعية بتحقيق الشركة للأرباح أو بتخفيض التكاليف. لذلك؛ فإنَّه من المفيد تأطير ذلك التعاون بإطار قانوني من خلال اتفاقيات الامتياز التي توقعها الحكومة مع شركات النفط والغاز؛ بحيث تتضمَّن هذه الاتفاقيات ما يُلزم الشركات بالتعاون مع الجامعات في مجالات البحث العلمي والابتكار. ولعلَّه من المهم أيضا تضمين ذلك في التراخيص التي تصدر للاستثمارات الأجنبية الكبيرة عامة، وبما لا يعرقل أو يعيق تدفق هذه الاستثمارات.

قبل أيام، ورد إليَّ مقطع مرئي من صديق تركي يرأس إحدى الجامعات في تركيا، المقطع يُظهر حافلة كهربائية ذاتية القيادة طورتها الجامعة بالتعاون مع إحدى شركات صناعة السيارات. صحيح أن السيارات والحافلات الكهربائية ذاتية القيادة أصبحت منتشرة في كثير من البلدان الصناعية وليست الجامعة التركية هي الوحيدة التي طورتها، لكنَّ تطوير التقانة عملية مستمرة ويمر بمراحل عديدة، وليس بالضرورة أن تكون كلها من إنتاج مصنع أو بلد واحد. لذلك؛ فليس فيما قامت به من عيب أو ادعاء في غير محله؛ لأنَّ تطوير التقانة لا يتم دائما باختراع شيء جديد تماما من لا شيء، وإنما يكون أيضا بإضافة قد تكون بسيطة لكنها تحسن من أداء التقانة الموجودة، وقد تُفيد مطورين آخرين وتقودهم إلى مزيد من التطوير لها. وعليه، فإنَّ تطوير التقانة عملية تراكمية وجهد مشترك بين الجامعات والجهات المستفيدة من تطويرها؛ لذلك فإنَّه إلى جانب أهمية أن يكون التعاون لنقل وتطوير التقانة شرطاً في بنود اتفاقيات الامتياز في قطاع النفط وتراخيص الاستثمارات الكبرى، فإنَّ على الجامعات العمانية من جانبها اعتماد برامج بحثية طموحة وواضحة، وأن تبادر إلى تقديم أفكار وخطط لتطوير تقانات معينة ودعوة الشركات؛ سواء في قطاع النفط أو غيره إلى التعاون معها.

 

* باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية

تعليق عبر الفيس بوك