سعر التعادل

د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي *

تُعرِّف نظريات الاقتصاد الجزئي "microeconomics" سعر التعادل "equilibrium price" بأنه السعر الذي تلتقي عنده رغبة البائع في البيع ورغبة المشتري في الشراء. أما نقطة التعادل السعري "breakeven price" فتُعرَّف على أنها نقطة السعر الذي تتساوى معه إيرادات بيع السلعة أو الخدمة مع تكاليف إنتاجها، أو هي نقطة الإنتاج التي تتعادل فيها التكاليف مع الإيرادات، فإذا زاد على ذلك حقق معه المنتج ربحاً وإذا نقص أدى إلى خسارة.

وفي السنوات الأخيرة، تمَّ اصطناع مصطلح "سعر التعادل المالي للنفط"، أو اختصارًا "سعر التعادل للنفط"، وقد أصبح هذا المصطلح على كل لسان، حتى بين غير المختصين، وتزايد تداوله مع تزايد العجز في ميزانيات الدول المعتمدة في إيراداتها على النفط، وتراجع النمو في الناتج المحلي الإجمالي لها. وتعود كثرة تناقل الألسن لهذا الموضوع إلى تخوف الكثير من الناس من تأثير انخفاض سعر النفط على مستوى معيشتهم أو فقدان كثير من الفرص التي كانت متاحة. ويُعرف "سعر التعادل المالي للنفط" بأنه سعر النفط اللازم لموازنة الميزانية العامة؛ أي الميزانية التي تتساوى فيها الإيرادات مع المصروفات. ويستخدم سعر التعادل كمؤشر يستند إلى تحليل العلاقة بين كافة إيرادات الدولة ومصروفاتها والعلاقة بين الإيرادات وسعر النفط، فإذا كان "سعر التعادل المالي للنفط" في دولة ما أعلى من سعر النفط في الأسواق الدولية، فإنَّ الميزانية العامة لتلك الدولة ستعاني من عجز، ولا بد من اتخاذ إجراءات لإصلاحه.

وفي تقرير أصدرته وكالة "فيتش" في سبتمبر الماضي، قدرت أن سعر التعادل المالي للنفط المقدر لسلطنة عُمان ودول أخرى في المنطقة، هو 80 دولارا للبرميل، وهو كما يبدو سعر مرتفع مقارنة بالسعر الحالي الذي يترواح بين 50 و60 دولارا.

لكن: هل "سعر التعادل" هذا واقعي؟ أم وهم ناتج عن عدم دراية؟ أم إيهام به لأمر ما؟

يبدو أنَّ "سعر التعادل" هذا هو سعر ابتدعه سماسرة النفط في محاولة منهم للتأثير على أسعاره، وربما يُستخدم أيضا من قبل جهات أخرى لأغراض غير تجارية، وقد توهَّم البعض أنه أداة مهمة لوضع الخطط والميزانيات العامة، ومؤشر على حسن أو ضعف الأداء المالي للدول؛ الأمر الذي قد يوقع بعضاً آخر في وهمٍ بأن الانتعاش الاقتصادي قريب، خاصة في فترات الاتجاه الصعودي لسعر النفط، وهو ما قد يدفع إلى الانطلاق أو الاندفاع نحو زيادة الإنفاق الاستهلاكي أو التراخي في ضبط النفقات الجارية أو الدخول في صفقات عالية المخاطر. لكنَّ الموضوع ليس بالسهولة التي يعرضها البعض؛ فسعر التعادل للدول ليس بتلك البساطة التي هو في الشركات والمؤسسات التجارية، أي السعر الذي تتساوى فيه تكاليف الإنتاج في الشركة مع إيراداتها من بيع منتجاتها،؛ حيث إنَّه وعلى صعيد الدول، هناك فرق بين سعر النفط اللازم لتعادل الميزانية في الدولة المنتجة للنفط وبين تكلفة إنتاجه؛ إذ يجب أنْ يؤخذ إلى جانب سعر بيعه وتكلفة إنتاجه، قدرات البلد على المحافظة على حجم الإنتاج اليومي منه، وزيادة الإنتاج إن اقتضى الأمر، وكذلك الإيرادات غير النفطية للدولة واحتياطياتها المالية، إضافة لإنفاقها السنوي -سواء كان إنفاقا متكررا أو رأسماليا أو تنمويا- ومدى الالتزام بالمخطط في الصرف؛ حيث إنَّه غالبا ما يكون الإنفاق الفعلي أعلى من المخطط عند وضع الميزانية، وهو ما يؤدي إلى عجز في الميزانية.

وليس بخافٍ أنَّ التجاوز في الصرف عادة جرت عليها كل الدول المنتجة للنفط في هذه المنطقة؛ حيث يزيد الإنفاق بزيادة الإيرادات من النفط، بغض النظر عن السعر الذي وضع عند إقرار الميزانية. لذلك؛ فإن "سعر التعادل" تحكمه عدة عوامل يصعب التنبؤ بها، أهمها: تكلفة الإنتاج وحجم الإنتاج اليومي والأهمية النسبية لإيرادات النفط في الميزانية العامة، والناتج المحلي الإجمالي، ومدى الالتزام بالمصروفات التي تم تحديدها عند وضع الميزانية. ورغم أنَّ تكلفة إنتاج برميل النفط في بعض الدول منخفضة جداً، إلا أنَّ بعض الخبراء يقدرون "سعر التعادل" فيها أعلى بكثير مما هو في دول ترتفع فيها تكلفة الإنتاج؛ ففي العام الماضي مثلا قدر الخبراء "سعر التعادل" للسعودية بأكثر من 83 دولارا للبرميل، مع أن تكلفة إنتاج برميل النفط فيها أقل من 3 دولارات، بينما قدَّروا سعر التعادل لروسيا بحوالي 42 دولارا، وكذلك الحال في بعض الحقول النفطية في أمريكا.

وإذا ما جاز القول إنَّ ما يسمى "سعر التعادل"، هو سعر افتراضي وهمي وغير مُفيد في وضع الخطط السنوية لأنه من الصعب -إن لم يكن من المستحيل- الوصول إليه، أو هو في أفضل الحالات سعر غير مستدام، لأسباب كثيرة؛ منها: وجود ضبابية في مستقبل أسعار النفط بفضل التقدم في تقانة الطاقة البديلة، أو لكثرة التغير في المخزون الذي تحتفظ بهِ الدول بسبب التغيرات المناخية، وكذلك بسبب الارتفاع المستمر في تكاليف استخراج النفط في بعض الدول وتراجع احتياطياتها المالية، وعدم التزام أكثر الدول المصدرة للنفط بالنفقات التي تضعها عند إعداد ميزانياتها، إضافة إلى أنَّ الإيرادات غير النفطية تعتمد بدورها على الإيرادات النفطية إلى حد كبير؛ بسبب اعتماد كثير من القطاعات والأنشطة الاقتصادية على قطاع النفط.

وبالنظر إلى الميزانية العامة للسلطنة للعام الحالي، فإنها وضعت 45 دولارا كمتوسط لسعر برميل النفط، وقدرت إيرادات الحكومة منه بحوالي 3.55 مليار ريال عماني، إضافة إلى 1870 مليون ريال من إيرادات بيع الغاز، وحوالي 3.22 مليار ريال من إيرادات أخرى خارج قطاع النفط والغاز، بينما قدرت الميزانية العجز فيها بحوالي 2.24 مليار ريال. ومن جانب آخر، قدرت الميزانية إجمالي الإنفاق العام بحوالي 10880 مليون ريال، منه حوالي 900 مليون ريال انفاق تنموي للوزارات المدنية. ولستُ هنا بصدد تحليل الميزانية العامة، فقد أصدرتْ الجمعية الاقتصادية العمانية تحليلا مفصلا تم نشره وهو متاح للقراء والمهتمين. لكن ما أردت قوله أنَّه يجب تجنب الوقوع في وهم ما يُسمَّى "سعر التعادل للنفط"، الذي قدره البعض لهذا العام بحوالي 80 دولارا، بل قدره آخرون بما يزيد على 100 دولار، فذلك السعر مبنيٌّ على افتراضات كثيرة لا يمكن توافرها مجتمعة، لكن حتى لو وصل فإنه يجب التمسك بالسعر الذي بُنيت عليه الميزانية وهو 45 دولارا، خاصة فيما يتعلق بالمصروفات المتكررة. أما المبلغ الزائد على 45 دولارا، فإن من المناسب في الظروف الراهنة أن يتم استثماره فيما يخدم النمو الاقتصادي ويسهم في إنعاش السوق عامة.

ويُمكن أن يتم ذلك بثلاثة أوجه: جزء منه يصرف للتعجيل بسداد مستحقات المقاولين والموردين للحكومة عن مشاريع سابق تنفيذها أو يتم تنفيذها حاليا، وجزء آخر يصرف على مشاريع تنموية جديدة ليست مدرجة في الميزانية، أو على مشاريع ربما تكون مؤجلة التنفيذ من سنوات سابقة؛ بحيث يتم اختيارها بعناية من حيث القيمة المضافة والأثر المضاعف لها، وكذلك من حيث خلقها لفرص العمل، وإن توافر جزء ثالث من الزيادة في الإيرادات، فيتم تحويله إلى الاحتياطي العام، أو يسدد به ما قد يستجد من عجز ينتج عن إنفاق تنموي أو ضرورات لم تكن في الحسبان.

أما فيما يتعلق بسداد الدين العام، فبما أنَّه مُجدول عند توقيع اتفاقية القرض أو معلوم موعد استحقاقه، كما في الصكوك والسندات، فلا داعي لاستخدام "الفوائض" للتعجيل بسداد الديون، لأن تحفيز النمو في هذه المرحلة أولى من سداد القروض، وعندما ينمو الاقتصاد فإنَّ الإيرادات تتنوع ويتسع المجال لسداد الديون الحالية، كما أنه من المفيد من عدة أوجه الاستمرار في الاقتراض لأغراض تنموية.

 

* باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية

تعليق عبر الفيس بوك