5 ريالات و700 بيسة!

عبدالله الفارسي

وضعت الأم دلة الشاي الكبيرة وحافظة اللقيمات في صندوق سيارتها، ودست الطاولة الخشبية الصغيرة بينهما، ركب طفلاها في المقعد الخلفي.

ذو العشر سنوات كان أطول قليلا من ذي الثماني سنوات بأربعة سنتمترات؛ لذلك كان هو المسؤول عن البيع وعن أخيه أيضا. طوال الطريق كانت الأم تنصحه لا تفعل كذا، واعمل كذا وانتبه لأخيك، وافتح عينيك جيدا على الطريق، ولا تثق في أحد فلا أمن ولا أمان لأحد!!

طفلان في مهمة عمل غير اعتيادية من الساعة الرابعة مساء حتى التاسعة، أنزلتهما أمهما على قارعة طريق مزدحم، ليس فيه سوى عوادم السيارات، وكثير من الأقدام والعجلات. بعد أن أنزلا الدلة الكبيرة وطاولتهما الصغيرة وكرسيهما البلاستيكي الوحيد، وحافظة اللقيمات الساخنة. قالت لهما أمهما: "خُذا حذركما من أبناء الحرام فهم كُثر". وانطلقت إلى بيتها حيث تنتظرها والدتها العجوز وابنتاها، وفقر وشقاء جاثم على حياتها لا ينتهي ولا ينحسر، صف الطفلان أكوابهما ونَصَبا دلتهما وحافظة اللقيمات الساخنة فوق الطاولة، كأنها أصنام بوذية، وجلسا ينتظران من يطلب شايًا بالحليب، ومن يشتهي لقيمات مقلية بالعسل.

جلسا يُراقبان ويمدَّان عينيهما البريئتين ينتظران من يمد لهما 100 بيسة مقابل كوب من الشاي اللذيذ، و100 بيسة أخرى مقابل 6 حبات من لقيمات أمهما اللذيذة.

مرَّت عليهما عشرات السيارات، بعض السيارات مدت لهما بمائة بيسة، وبعضها مدت لهما بثلاثمائة بيسة، وبعضها بخمسمائة بيسة، بينما كثير من السيارات لم تكترث لهما، ولم تمنحهما سوى نظرات الشفقة وغالبيتهم بَخِلوا عليهما حتى من نظرة الاستعطاف ومشاعر الرحمة.

وقفتْ سيارة "أودي سبورت" جديدة فارهة فاخرة يقودها أحد الوافدين الهنود وبجانبه صديقه.. هرول الطفل ذو الثماني سنوات إلى السيارة فهو المسؤول عن استلام الطلبات.

خفض السائق من صوت موسيقى الراب التي كانت تَصْدَح في مقصورة سيارته، وأنزل زجاجته المعتمة، لفحت برودة السيارة وجه الطفل الصغير فأحيت الدماء في عروقه، وأغرقت رائحة عطرها روحه الصغيرة وأيقظت حواسه الطرية.

ابتسمَ مُبتهجا بالنصف ريال الذي مدَّه إليه الوافد الثري، جاذبًا نظرات الطفل الصغير إلى خاتمه الذهبي الضخم الثمين الذي كان مُلتصقا في بِنصَر يده اليسرى، وانطلقا بسيارتهما الفارهة يضحكان ويقهقان، لوى السائق شدقه الأيمن بنصف ضحكة ساخرة، وقال لصديقه: هؤلاء أطفال مكافحون ولهم مستقبل مشرق!!

عارضَه رفيقه بنبرة حازمة صادقة، قائلا: "هؤلاء أطفال أشقياء تعساء، لقد مزقوا نياط قلبي"!!

رفع السائق من صوت موسيقى الراب، تاركا خلفه هواء، وسماء، وعبثا وعذابا وفراغا.

خيَّم الظلام على المكان، وفتحت أضواء الشارع مُوزِّعة شعاعها على المكان، ملقية بنورها على الطفلين وطاولتهما وما فيها.

جلس أحدهما على صخرة والآخر جلس على الكرسي، وأخذا يتناوبان على الكرسي الوحيد الشاغر، لم يحمل لهما الليل سوى بعض البيسات، الليل والنهار كالبشر، لا فرق بينهما.

قُبيل الساعة التاسعة بدقائق؛ فتح الطفل الأكبر كيس النقود، وأخذ يحسب ما جمعه من بيع اليوم، مائة، مائتين، تسعمائة، ريال، ريالان، أربعة ريالات، خمسة ريالات وسبعمائة بيسة! هذا رزق اليوم.

وكما علَّمته أمه، قال الطفل ببراءة نقية: "الحمدلله، اللهم بارك لنا فيما رزقتنا".

جات الأم في سيارتها القديمة ذات المصباح الوحيد، فعرف الطفلان سيارة أمهما القادمة من بعيد بمصباحها اليتيم.. أوقفتها دوريات الشرطة عشرات المرات، فترد عليهم بجواب واحد لا يتغير أبدا: "أعطوني عشرين ريالا أشتري مصباحا جديدا"، فيطلقون سراحها شفقة عليها، ورحمة بها.

وقفتْ السيارة بجانبهما، فتحت لهما صندوق السيارة، وضعا أغراضهما داخل صندوق السيارة، طوى الطفل كرسيه الصغير وحشره في الصندوق، وركب بحانب أخيه. وانطلقت الأم حاملة طفليها و"خمسة ريالات وسبعمائة بيسة".

أخذ الطفلان يتأملان الشارع وأضواء السيارات، ويفكران في مستقبلهما المشرق الذي ينتظرهما، كما قال ذلك الوافد الهندي الثري صاحب سيارة الأودي سبورت الفاخرة الفارهة، وذو الأصبع الذي يحمل خاتما ذهبيا ضخما وثمينا.

كانت السيارة ذات المصباح الوحيد تقطع الطريق بكل مشقة وإنهاك، وكان كل من بداخل السيارة يحلُمون بيوم جميل وفرج سريع.

التفت الطفل إلى أمه، فرأى دموعها تتدحرج من خديها ببطء وصمت، كانت دموعًا ساخنة كقطرات شمعة ذائبة، كانت تُتمتم بصوت متحشرج خافت: "اللهم الطف بنا ولا تضطرنا لأن نبيع شيئا غاليا وثمينا غير الشاي واللقيمات، اللهم لا تحملنا ما لا طاقة لنا به".