فوائض الطاولة

غسان الشهابي

ما إن استقرَّ المقام بالرئيس الأمريكي بايدن، حتى أطلق المحادثات النووية ثانية مع إيران بعد توقف دام أربع سنوات تقريباً، وهذا ما كان متوقعاً مُضِيًّا على نهج الديمقراطيين في الولايات المتحدة، حيث أولوياتهم في الحكم تشير عليهم بمثل هذه الخطوة التي كانت مُتخذة أيام الرئيس السابق باراك أوباما، ولو قُدِّر لترامب أن يفوز بفترة رئاسة ثانية لواصل في نهجه نفسه.. أي أن الأمر يعبر عن تكتيكات الحزبين المتسابقين، وهذا أمر معروف وأشبع طرحاً.

قبل أسابيع، رفع بعض المغردين الخليجيين سخونة ترديد أنَّ أي مفاوضات تخص السلاح النووي الإيراني، يجب أن تكون دول الخليج جزءًا منه، ولكن ما هو واضح للعيان -تقريباً إلى الآن، وأرجو أن أكون "غلطان"- أنَّ دول الخليج لن تكون جزءاً من أي مفاوضات قادمة في هذا الشأن، حتى لو أعرب المتحمسون عن تمسُّكهم بهذا الأمل الكبير، على أمل ألا يطاردوا سراباً يلتمع في عزّ الحر.

صحيح أنَّ الموضوع يهمّنا جميعاً؛ لأن امتلاك إيران للسلاح النووي يعني ميلان كفة التوازن "الشكلي" إلى فترة طويلة لصالح البرّ الشرقي من الخليج العربي، ولن تنفع بعد ذلك البكائيات المعروفة، ولا الآمال العريضة في أن تهجم الولايات المتحدة على إيران، ولا أن تضرب طائراتها المفاعل النووي، لأن المفاعل أقرب إلينا إلى الدرجة التي نخشى فيها من أي تسرب إلى مياه الخليج؛ إذ سيحيلها إلى بحر ميِّت آخر؛ ولكن نعود إلى صلب السؤال نفسه: لماذا يجب ألا تكون هناك أي مفاوضات إلا ودول الخليج متمثلة فيها؟

يعترف العالم بالفاعلين الذين يرسمون واقع المنطقة ومستقبلها، الذين يمتلكون مقوّمات القوة الاقتصادية والبشرية، الدول ذات الرؤية الواضحة لما تريد فعله في الغد على المستوى الجيوسياسي، ولكن دول الخليج، أو مجلس التعاون، افتقدت هذا الدور الذي يجعل منها صوتاً واحداً، أو إرادة واحدة، أصبحت بدولها الست أربعة أجنحة ترفرف في اتجاهات مختلفة، ولا تزال من الناحية الاقتصادية دولًا ريعية معتمدة على السلعة الوحيدة الناضبة، وإنْ أرادت التنويع ذهبت إلى القطاعات الخدمية، تستهلك طاقة كبيرة، وموارد ضخمة في منافسة بعضها، ومن الناحية العسكرية فإنها لا تشكل خطراً على أمن المنطقة واستقرارها... صحيح أنَّ بعضها يموّل حركات هنا، أو فصائل هناك خارج المنطقة، ولكن هذا في عرف الدول المتفاوضة يدخل في باب "فخّار يكسر بعضه"، فلا تعنيها هذه السباقات البائسة، ولا الأراضي المتقاتل عليها، فكما يقول المثل الشعبي: "لو فيه خير ما رماه الطير"، كما أن وجود دولة -مثل إيران- مهمٌّ لاستمرار التهديد، لتهاجر الأموال الخليجية إلى ملاذات آمنة غرباً، ومهم لاستمرار شراء أحدث المنظومات الدفاعية بشروط جائرة، وتقريب وجهات النظر مع الكيان الغاصب حتى الارتماء في الأحضان تماماً، وكلما تراخينا في دفع فواتير الحماية تم إرخاء اللجام -من الناحية المقابلة- لكي "تهوّش" إيران من جديد، فترتعد فرائصنا ونطالب بالمزيد من الحماية، والمسارعة في ضرب إيران، والولايات المتحدة ليست من الغباء بمكان لتفقد الشرارة المحفزة على أن نستمر في بيض الذهب لها... فلماذا تدعونا إلى الشراكة لطاولة المفاوضات؟!