صُمٌّ ولكن مُبْصِرون

مريم الشيزاوية

لم يَعُد خافيًا علينا أمر هذه الحياة وتبدُّل حالها كأمواج متقلّبة، فما تراه اليوم هو محصلة قرارات اتخذتها بنفسك يومًا، ومبادئ عشت عليها سنين طويلة. ولكن للقضاء وأمر الله في خلقه وتوزيع نعمه على الخلائق حكمة بالغة لا يعلمها إلا هو سبحانه، ومهما يكُن فينا من نعم فسنعجز عن إحصائها؛ فالصحة نعمة، وراحة البال نعمة، والرزق نعمة، والمال نعمة، حتى فقد إحدى النعم هو نعمة بحد ذاتها لمن أدرك الحكمة من وراء حدوث ذلك، ومن يؤت تلك الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرا، وفي الوقت ذاته سيكون نقمة وعذابًا على من لم يؤمن بقضاء الله وحكمته.

وكأي مجتمع، فمن المحتم وجود فئات وأعداد كبيرة ممن فقدوا إحدى حواسهم لا سيما السمع، سواءً عبر حادث عرضي أو أن أحدهم وُلِد أصمَّ، لكن ما نستغربه ويخالف المنطق السوي أن نرى البعض يطلق سهام نظراته الجارحة في وجوه الصمّ، بل إن الأدهى والأمر أن يصنفهم بعض ضيِّقي الأفق والفكر بأنهم سبب في تأخرنا عن ركب الحضارة والتقدم! أليسوا بشرًا مثلنا؟ إن فقدهم لحاسة السمع لا يضعهم في مرتبة أدنى من البشر، وإن هذا الأمر لا يعيبهم، فالعيب أن يكون المرء كاملًا صحيحًا وتراه عاجزًا عن الثقة بنفسه وتحقيق طموحه.

قد نصادف في حياتنا أحداثًا عابرة، لكنها تحمل الكثير من المعاني والعبرة لغيرنا، كتلك الحادثة التي أسردها عليكم من باب النصيحة لتجنب الوقوع في فخ لطالما سقط فيه الكثيرون؛ ففي يوم من الأيام كنت أنتظر في صالة القادمين في المطار، أحتسي قهوتي، وإذ بشخصيْن أصمّين يجلسان على طاولة ليست ببعيدة، يتبادلان أطراف الحديث بلغة الإشارة، ولأنني كنت أجلس في الاتجاه المعاكس، فقد تملَّكني الفضول الشديد لأن أنظر خلفي ولكن ما شاهدته كان كافيًا لأن يجعلني أعيد بصري إلى الأمام لتبدأ مظاهر الحيرة واضحة على وجهي، فجميع من حولي كأنهم من كوكب آخر ينظرون باستغراب شديد، وكأنهم لم يُشاهدوا في حياتهم أي شخص من الصمّ، حتى إن نظرات من يتحدث بلغة الإشارة أصبحت مُريبة للبعض الآخر من أفراد المجتمع، وهنا كان لا بد لي أن أتوجَّه للأفراد والمجتمع حاملة رسالة توعوية لما هو واجبٌ اتباعه وتطبيقه في مضمار التوجيه المجتمعي.

فالتعايش المجتمعي ضرورة في ظل التقدم التقني الذي بات يشهده العالم أجمع، ويجعلنا نتساءل باستغراب: "لِمَ لا نزال نرمق فئة الصمّ بنظرات الازدراء ونُسمِّهم بالعجز والضعف؟" لقد أثبت لنا الزمان خطأ التصور الذي ساد قديمًا، فهم ليسوا بعاجزين بل إن جهودهم تظهر واضحة في العديد من مجالات الحياة، فلم تعُد الإعاقة حاجزًا للإبداع والتميز في المجتمعات؛ فالاندماج رسالة مجتمعية تُخاطب كل هذه العقول المتحجرة بالنظر أولًا إلى جوهر الإنسان أولًا لا إلى مظهره، فما تعتقده ليس بالضرورة أن يكون صوابًا، فإطلاق سهام نظراتك الجارحة ولسانك السليط قد يقتل إنسانا بريئًا لا ذنب له سوى أنه ابتلاه الله بفقد حاسة من حواسه ونعمة من نعمه.

فرسالتي من موقعي هذا "كونوا أصحاب يد وعون، لا هادمين لنفوس بريئة في مجتمع تفشَّت فيه مظاهر العوز والعجز، أسهموا في نشر الوعي بين أحبائكم ومن حولكم في احتواء أفراد تلك الفئة، بل تعلموا أيضًا لغة الإشارة، فلربما نُصادف صديقًا أو أخًا أو زميلًا لنا في هذه الحياة من الصمّ، فقدرتنا على التعلم تساعد وتسهم في بناء مجتمع خالٍ من التنمُّر داعمٍ لأصحاب الهمم من ذوي الإعاقات".

وختامًا.. أدعوكم إلى التغريد سويًّا، والتوجه لتعديل ونشر ثقافة التعايش المجتمعي بين أفراد المجتمع ومؤسساته وذوي الإعاقات، خاصة الصمّ، لنكون جسرًا يمرون عبره إلى عالم جديد وحياة مشرقة، مليئة بالإنجازات والعطاءات والتضحيات، فكلنا سواسية.

هم صمٌّ ولكنهم يبصرون عبر نوافذ قلوبهم وعقولهم وأبصارهم، فلا تغلقوا تلك النوافذ وكونوا بصيص النور والأمل في ليلهم الحالك.

* اختصاصي معلومات - التربية الخاصة

تعليق عبر الفيس بوك