الأفكار التلقائية السلبية

 

د. حسين العبري

قسم الطب النفسي مستشفى المسرة

"الأفكار التلقائية السلبية" مصطلح مهم من مصطلحات العلاج المعرفي السلوكي الحديث، وقبل أن نتعرف على هذا المصطلح، من المهم أن نبين أن العلاج المعرفي السلوكي يقوم في أساسه على أن الأفكار هي التي تؤدي إلى نشوء المشاعر.

ولذا فالأفكار السلبية هي التي تُؤدي إلى نشوء المشاعر السلبية مثل القلق والاكتئاب، فمثلًا لنفترض أنك مررت على أحد زملائك في العمل وسلمتَ عليه ولم يلتفت لك، وشعرت بالضيق. إنَّ شعورك بالضيق الذي تحسه لم ينتج حقيقة من الموقف نفسه مباشرةً. فبعد الموقف، حدث تقويمٌ معرفيٌّ داخل دماغك، وهذا التقويم المعرفي هو الذي أدى إلى نشوء الضيق. والتقويم المعرفي ما هو إلا الأفكار التي مرت داخل دماغك بعد حدوث الموقف. وأغلب الظن أنَّ الأفكار التي راودتك حينها كانت من قبيل: "إنه لا يقدرني" أو "إنه لا يهتم بي" أو "إنه ليس زميلًا جيدًا وإلا كان اهتم بي ورد عليَّ السلام". بل ربما تكون الأفكار التي راودتك من نوع أعمق بعض الشيء، مثل: "إنني غير مهم لذا فهو لا يهتم بي" أو "لا أحد يُقدِّر في هذا الزمان"، أو "لقد ذهبت الأخلاق: إنه آخر الزمان".

كل هذه الأفكار هي التي جعلتك تقوِّم الموقف على أنه موقف سالب، وهي في الحقيقة التي أدت إلى نشوء مشاعر الضيق داخلك.

غالبًا ما تباغتنا المشاعر من دون الانتباه إلى الأفكار الكامنة وراءها. ففي المثال السابق، الأغلب أن يرادوك شعور الضيق من غير أن تتبين حقيقة الأفكار التي أدت إلى الضيق. لكنك لو تأملتَ قليلًا في الذي ضايقك ستكتشف الأفكار القابعة خلف المشاعر. إن هذه الأفكار هي التي يسميها المعالجون المعرفيون السلوكيون بالأفكار التلقائية السلبية. وهي تلقائية لأنها تحدث مُباشرة بعد المواقف المحددة، وهي سلبية لأنها تعكس نظرة سالبة إما عن الذات أو الآخر أو عن العالم أجمع والحياة جمعاء. لكن الأهم في كل هذا هو أن المشاعر السالبة التي تحدث جراء المواقف اليومية لا تتعلق بالمواقف ذاتها، أي أنها ليست نتاجًا لازمًا وضروريًا ينشأ عن المواقف أو المواقف الشبيهة طوال الوقت ومع كل الناس. فالأفكار التلقائية السلبية هي التي تنتج المشاعر السالبة وليست المواقف بحد ذاتها.

يتدخل المعالج المعرفي السلوكي عند هذه النقطة بالضبط. إذا كان الموقف لم يُحدِّد المشاعر الناتجة فإنَّ المعالج يقول: دعنا إذًا نستكشف الأفكار التلقائية ونرى هل هي أفكار منطقية وعقلانية أم أنها ليست منطقية ولا عقلانية. وإذاً، هل صحيح أن زميلك لا يقدّرك؟ ما هي الأدلة على ذلك؟ هل هناك أدلة مضادة تثبت العكس؟ وحتى إن كانت هذه الأفكار منطقية وعقلانية ولها ما يُبررها، فماذا سيحدث حقًا لو أنَّه فعلًا لا يقدرك؟ كيف سيحطم هذا حياتك ونفسك وعالمك؟ إن هذه المساءلة المنطقية للأفكار التلقائية هي في لب العلاج المعرفي السلوكي.

هذه المساءلة المنطقية للأفكار التلقائية تُعيد تشكيل أبعاد الموقف وتعيد بالتالي تشكيل المشاعر المصاحبة له. يُسمَّى هذا تصحيحًا معرفيًّا: "الزميل محترم وكان يُسلِّم عليَّ سابقًا"، "لعله كان مشتت الذهن ولم ينتبه لي"، "وماذا يعني أنه لم يُسلِّم عليَّ، هل يجب أن أحصل على احترامي باحترام الآخرين لي أم يجب أن ينبع احترامي لنفسي من داخلي؟"، "لا يجب أن أعمم موقفًا واحدًا على مواقف زميلي الجيِّدة"، "لا يجب أن أعمم موقفًا واحدًا سيئًا حدث لي اليوم على اليوم كله". هكذا يظهر جليًّا أن مشاعر الضيق التي ظهرت في الموقف يمكن أن تتبدل إلى مشاعر أخرى أو على الأقل تخف حدتها، فلا تعود تحدث الألم النفسي ذاته لدى صاحبها.

تنشأ أنماط الأفكار التلقائية مع تطور الفرد. فالإنسان يكوِّن موقفه من العالم والحياة ومن نفسه تدريجيًا وهو ينشأ في بيئته. قد تكون هذه البيئة جيدة وقد تكون سيئة لكنها في الأغلب الأعم مزيج من هذا وذاك. لكن بطريقة أو بأخرى يتطور ميلٌ عام داخلي لدى الأفراد في رؤيتهم لأنفسهم وللآخرين وللحياة من حولهم.

ترى النظرية المعرفية السلوكية أنَّ الميل هذا يجب أن يكون منطقيًّا وعقلانيًّا، وأنه يجب أن يكون متعادلًا ومتوازنًا، ويستطيع به الفرد أن يتكيف مع نفسه أولًا، ومع الآخرين ومع العالم أجمع.

إنَّ الأفكار التلقائية تتطور إذن من قناعتنا العميقة ومن قوانيننا النفسية وما نظن أن علينا فعله أو تركه، بالتالي يمكن أن تتغير الأفكار التلقائية التي نتلقى بها المواقف الحياتية اليومية عن طريق تغيير قناعاتنا الداخلية أو تبديل منظورها أو عن طريق تصحيحها.

خلاصة ما أود قوله هو أنَّك عزيزي القارئ يمكن أن تستخدم مفهوم الأفكار التلقائية السلبية ليساعدك في التغلب على المشاعر السيئة التي تمر بها في يومك. لا يجب أن تجعل زميلك الذي لم يرد عليك السلام ولم يلتفت لك، يعكر صفو مزاجك؛ خصوصاً لو كان ذلك في بداية الصباح! هناك تفسيرات كثيرة للموقف الواحد، فلا تدع التفسيرات السلبية تقودك باتجاه الضيق. هناك دائمًا أفكار بديلة قد تكون أكثر منطقية وعقلانية من الفكرة التلقائية التي تبزغ فجأة بعد موقف مُعين. لذا سائلْ نفسك! لا تدعْ الأفكار التلقائية تغزوك وتفاجئك وتعكرك؛ بادرها بمساءلة منطقية عقلانية، وصحِّحها!

تعليق عبر الفيس بوك