العطاء بصمت

 

 

هند الحمدانية

هل مُمكن أنْ تصف أسعد يوم عشته على الإطلاق؟ هل لك أن تعبر عن أحاسيسك الجياشة التي راودتك في يوم شعرت فيه بنشوة غامرة من السعادة؟ يا تُرى ما هو السبب الذي اختبأ خلف كل هذه الطاقة الإيجابية؟ هل لأنَّك تلقيت هدية ثمينة أو مفاجأة من أحد؟ أم لأنك حصلت على شيء كنت تتمناه منذ فترة طويلة؟ أم أنه دعم نفسي همس به صديق في أذنيك، أو ربت بيديه على كتفيك؟؟؟!! أم... وأم... وأم.

الأسباب كثيرة جدًّا، لكن صدقني يا عزيزي، هناك سرٌّ أعمق من كل ذلك، يمكنك من خلاله أن تستشعر هذه السعادة بشكل لا يمكن وصفه بكلمات ولا حتى مُجلدات، وهو يمثل أسمى قيمة إنسانية، بل أعظمها على الإطلاق، ألا وهو العطاء، والعطاء تعود جذوره الى اسم الله المعطي، الذي وصف عطاءه فقال سبحانه: "وما كان عطاء ربك محظورا"؛ فهو المعطي الكريم الذي من روحه نفثت كل أرواح البشر؛ لذلك كانت سعادتهم بالامتثال بصفاته وأسمائه الحسنى.

وعندما يذكر العطاء، يثور "الأخذ" ويستنفر مُعلنا وجوده في عملية الشحن الإنساني بين الإرسال والاستقبال، ليتوازن بذلك الوجود.. فالأخذ في حد ذاته ليس فعلا سلبيا، ولكنَّ الطاقة الكامنة خلفه هي التي تُثقل على الإنسانية كاهلها؛ فعندما تُعطي بكل حبٍّ وامتنان، وكيفما كان شكل عطائك: ماديا أو نفسيا أو وجدانيا، فإنَّ هناك مساحة فاصلة تخلق بين عطائك ومفهوم الأخذ الثابت في معتقداتك، هذه المساحة الفاصلة هي التي أنوي أن تمتد إليها خيوط النور في هذا المقال.

إذا كُنت ذاك الشخص الذي يعطي وينتظر ردات أفعال الآخرين، أو كلمات الشكر من أفواههم، أو نظرات الفخر بأعينهم، فاسمح لي بأنْ أخبرك أنَّ عطاءك بات هباءً منثورا، لن تنال منه سوى رغبتك المحدودة جدًّا في المنِّ على المعطي أو أذيته، وهنا أتوسَّل إليك أن تُعيد تهذيب داخلك ونواياك، لكي يعود إليك عطاؤك بالخير أنت أولا ثم الآخرين.

عندما تعطي.. أعطِ بصمت واختفِ بعدها، لا تترقَّب ما الذي سيحدث بعد تلك اللحظة، لا تحاول أن تسترق السمع: ماذا قال الآخرون عنك، ولا تحاول أن تتجسس على ردات أفعال الذين قدمت لهم شيئا، فقط أعطِ واختفِ، عندها فقط سوف يستعمرك شعور لن تستطيع وصفه أحرف ولا كلمات، سوف يكبُر فيك حتى أنه لن يقوى صدرُك على اتساعه، إنَّه شعور العطاء اللامشروط وغير المحدود، العطاء للعطاء فقط بدون مردود، أعطِ واختفِ لا تحلل الأمور، يكفيك فقط من العطاء هذا الشعور؛ فعطاؤك مثل النهر، فمثلما يعود النهر للبحر، هكذا يعود عطاؤك إليك، فقط أعطِ واختفِ.

للعطاء صور وأنواع، فهناك عطاء مادي ومعنوي ونفسي، وعطاء مباشر وغير مباشر، وغيرها من صور العطاء المفتوحة بين كل ما خلق الله، ولكن أغلبية الناس يُعبرون بالعطاء المادي، ربما لأنه محسوس ويستطيع البشر تقديره بصورة أبسط، كالصدقات والتبرعات وغيرها من العطاءات المادية المعروفة، وهناك العطاء المعنوي والدعم النفسي وهو من أعظم العطاءات أثرا في القلوب، فالكلمة الطيبة والابتسامة الصادقة لهما أن يعبُرا إلى القلب في لمح البصر، لهما أن يطيبا الخواطر والجروح، فأصلهما ثابت وفرعهما في السماء.

وهنا.. أودُّ أن أشارككم قصة صديق عزيز وغالٍ على رُوحي، كان إنسانا في غاية المرح والإيجابية، وهو الأكثر تفاؤلا من بين جميع أصدقائي، كان معطاءً جدًّا لحد لا يمكن أن يتصوره مخلوق، يُعطِي دون تفكير، ويؤثر الآخرين على نفسه في كثير من الأحيان، وعندما كان يذهب إلى عمله كل صباح، كان يمر كنسمة باردة تداعب كل أروقة المكاتب، يسلم على الجميع من يعرفهم ومن لا يعرفهم، يشاطر الجميع انطباعاته الصباحية عن وجوههم المشرقة وملابسهم الأنيقة، يثني على تفاصيلهم الدقيقة وعلى أكواب قهوتهم الدافئة، يرحب بالجميع حتى عمال النظافة البسطاء الذين انشغلوا بتنظيف أغبرة المكاتب وتقليم حديقة المبنى، كان يُغدق عليهم بسلامات منعشة وأسئلة متكررة عن أحوالهم مع ابتسامة رضا وقبول، كان يقف منتظرا سماع استجابتهم له بحب وحسن استماع، مُشعرا الجميع بأنَّ أمركم يهمُّني وأنني أكترثُ لأمركم، حتى جاء ذلك الصباح، الزملاء على رأس مكاتبهم والعمال منشغلون بمهامهم والقهوة ما زالت تفوح في أروقة المبنى، لكنَّ روح صديقي لم تمر بعد، وربما لن تمر مرة أخرى، كان هنا شيء ناقص في أروقة المكان، كان طيف صديقي الغائب مثل مساحة فارغة لم يقدر على ملئها أحد، كان لابتسامته اللطيفة شوق في وجوه الجميع، وكانت لكلماته الطيبة حنين موجع ملأ صدور الجميع من المدير والموظفين والمراجعين وعمال النظافة، افتقده الجميع وكأن شمسا مضيئة لن تشرق من جديد، فلقد توفِّي صديقي حاملا معه ذكرياته وكلماته وابتسامته.

هكذا نحن خُلقنا للعطاء، خلقنا لنزرع جذورا لا تنتزعها الرياح، خلقنا لنعزز إيجابيات بعضنا ونتجاهل العيوب في أي موقع وضعنا الله به وأي طريق قدر لنا أن نسلكه، خلقنا لنحب أنفسنا والآخرين، فكان الحب مصدر العطاء في الوجود وامتدادا لقنواته المتدفقة، يقول د. ديفيد .هاوكينز: "كل شخص لديه الفرصة للمساهمة في جمال العالم وتناغمه، من خلال التعامل اللطيف مع جميع الكائنات الحية، وهذا يدعم النفس البشرية، فما نقدِّمه للحياة بلا حساب يغمُرنا مجددا لأننا جزء من هذه الحياة أيضا، تماما مثل موج البحر، فكل هبة تعود إلى واهبها، وما نحققه في الآخرين، نحققه في أنفسنا أيضا".

أنا وأنت جزء من هذا الكون؛ فلنتبادل الجمال واللطف، وليوحدنا الحب في العطاء، ولنصبح قنوات عطاء تصبُّ في شرايين الحياة ولا ينضب معينها أبدا، قدم كل شيء أو أي شيء من أي موقع أو بيت أو قلب وقفت فيه أو استوقفت عنده، جرِّب أن تملك روح المبادرة أو أن تتطوع، أو أن تُسهم بجهد جسدي أو فكري دون أن تطلب المقابل، فلنتحد معا لنصبح مصدرا لعطاء صادق لا يتوقع شيئا من أحد، بل يقدم بصمت ثم يختفي.

تعليق عبر الفيس بوك