التفاح الدموي

 

طفول سالم

أزاح الستارة ونظر إلى الخارج.. تعبيرات وجهه جامدة لا تنمُّ عن شيء، عيناه باردتان كعينيْ سُلحفاة تنتظر موجة تسحبها إلى أعماق البحر، لا يتذكَّر آخر مرة مشَّط فيها شعره، فهيئته المنعزلة انعكست على وجهه الذي لا تظهر عليه بوادر الابتسامة حتى في المرآة.. لعلَّها مدفونة في أعماقه المظلمة، تنتظر أن يَحِين الوقت لتندفع من صمتها متى وجدت منفذا من جرف شِفاهه المُطبقة بإحكام.

أطفأ النور وخرج من غرفته يسحب قدميه المثقلتين بالأنين، غير قادر على إسكات همسات الناس من حوله، رائحة أنفاسه كجثة عفنة؛ تسمَّر في مكانه ونظر حوله وأخذ نفساً عميقاً، ثم أخذ قُبعته التي كان قد دسها في جيبه ووضعها على رأسه، وأخرج منديلا منقوشا على إحدى زاويتيه تطريز باللون الزهري والأخضر الفاتح لزهرة صغيرة لا تنبت إلا في الجبال، ومسح أنفه. ثم طوى المنديل وحدق قليلا في تلك الزهرة، متذكرًا كيف كانت أصابعها الرقيقة تُطرزها بانسيابية وخفة، ظن أنها لن تفارقه حتى خطفها الموت ذات يوم وهي تودِّعه، عندما سقط عليها جذع شجرة كانت تقف تحته، مسببا لها نزيفا حادا لم يستطع إيقافه ولا إسعافها.. ففات الأوان!

لم يكن له أحد غيرها بعدما تُوفِّي جميع أهله.. تنهَّد في لحظة صمت، وأعاد المنديل إلى جيبه، وانطلق إلى الشارع هاربا من تلك الذكريات التي حطَّت بثقلها عليه كغيمة ماطرة دون سابق إنذار. لَمْلَم نفسه وجلس بقرب حديقة تبعد أمتارًا قليلة عن المبنى الذي يسكنه، اقترب منه رجل يحمل حقيبة جلدية سوداء واستأذن منه للجلوس بقربه، أومأ برأسه موافقًا، وجلس الرجل واضعا رجلا على رجل.. تنهَّد بحنين وأخرج غِليونه قائلا: هل تسمح لي أن أدخن؟

هزَّ عادل رأسه بإيجاب وملامح وجهه متجمِّدة كالعادة.

حدَّق به الرجل دون أن ينبس ببنت شفة، وهو عاجز عن إبعاد نظره عنه... امتلأ الهواء برائحة الدخان الذي يزفره من أنفه كأنه قِطار بخار يدفعه مرة واحدة. وضع غليونه على الكرسي بينه وبين عادل وأطلق لحنا مرحًا بمذاق التُّمباك المحروق من غِليونه: إنه ينشِّط الروح ويعدِّل المزاج ويملؤك بالمرح.. هل تريد أن تجرب؟ ومد الغِليون إليه ونظره جاحظا بتعابير وجهه الباردة التي لم تتغير. هز رأسه نافيا، مصوِّبا سهام بصره نحو شجرة التفاح، فوقف الرجل بين يديه ينظر إليه بحزن، وقال: هذه السماء وهذه الأرض خذ منها ما تشاء.

مد يده مُمسكا تفاحتين سالت منهما الدماء، وقال: مالي أراك لا تقضم منها قطعة! فأبصر دودًا يسقط وبضع أجساد تتهاوى كأنها غربان تجمعت حول جثة هامدة.

اشمأَّزَّ مما رآه وانطلق مُبتعدا عنه؛ فأسرع الرجل يقذف داخل فم عادل التفاحتين حتى امتلأ شدقه بهما، ثم فتح حقيبة سوداء وأخذ منها مُلصقا أسود ووضعه على فمه، وألقى الحقيبة كأنه يرمي بشيء لن ينفعه. وقف مُمسكا بيدي عادل، باسطا إليه يديه المضرجتين بالدم.. وقال: "إنه عمل شاق أن تكتِّف رجلا بالغا مثلك.. أليس كذلك يا عادل؟!".

يُمكننا أن نستمتع معا بأكل المزيد من التفاح النتن!

لم يتلفَّظ عادل بحرف واحدٍ.. كانت الدماء تخرج من أنفه الطويل، وصوت الصفير يبدو ثقيلا يطن بأذنيه. ربت الرجل على رأسه، ثم مرر سبابته على خط جبهته مرورا بعينيه المتسمِّرتين حتى وقف على اللاصقة السوداء، بينما صرخة مكتومة في أنفاس عادل تكاد تنفجر وجسده يرتعش. انتزع الرجل اللصقة بقوة من على فم عادل، فدلفت التفاحتان من فمه إلى الأرض لتغوصا في أعماقها، تلاحقت أنفاسه سريعا وأخذت نبضات ألم تضرب عُروق عنقه تشوِّش رؤيته على نحو غير اعتيادي. صاح به الرجل: لا تستسلم الآن لم نصل بعد للذروة، افتح عينيك وانظر مليًّا هذا أفضل طعم تتذوَّقه على الإطلاق!! سيكون الأمر مسليا لك حقا.

حدَّق عادل في حيرة مرعبة، ولم يعرف ماذا يجري؟ ولمَ لا يقدر على أن يتحرك من مكانه؟

حمل الرجل تفاحتيْن أُخرييْن وهو يصفّر في مرحٍ. كان ذهن عادل شاردا تماما حتى إنه لم يتمكن من الوقوف. أخرج الرجل منديلَ عادل المفضَّل وأحنى رأسه، وقال: حان وقت وداع الحياة القصيرة، يجب أن تنظر جيدا إليها يا عادل.. إغماضُ العينين لن يُفيدك، إنني حقا آسف أنك لا تشعر بشيء أليس كذلك. أتريدني أن أتوقف؟ عليك أن تواجهني إذن.

حاول عادل أن يتزحزح من مكانه، لكنَّ صوت غرغرة الدماء في حنجرته يشبه نافورة مسدودة، ثم انفجر الدم من فمه مصحوبا بديدان لَزِجة، نهض عادل متجها إلى الرجل بخطوات سريعة، وخطف غِليونه ليغرزه في حنجرته مُختَرِقا القصبة الهوائية، ثم وجه إليه طعنات في كل مكان من جسده، حينها سمع غرغرة دمائه تُصدِر صوتا عاليا لا يميز ما يقوله.. ظلت ابتسامته على شفتيه تجمع الدم في برك صغيرة تحت جسده، وتدحرجت التفاحة تحت جذع الشجرة.

أفلتَ الغليون من يده مُصدِرًا صوتا فانكسر إلى نصفين متباعدين، ووقف بجانب الجثَّة غير مُدرك لما فعله، ليرى يديه وملابسه مُضرَجَة بدماء الرجل الغريب!

جَذَب عادل الحقيبة المملوءة بالتفاح العَفِن الذي تدحرج منه في كل مكان، ونظر حوله ليرى الناس ما عادوا موجودين. لقد أصبحوا كالأموات؛ لا يكترثون لشيء!

يعلم عادل أنَّهم لا يهتمون بأمره، حاول حمل الحقيبة وأدار ظهره لجثة الرجل، لكنَّ الحقيبة كانت ثقيلة جدا، ولم يقوَ على حملها، فتركها ملقاة على الأرض، وأسرع إلى شقته، وأغلق على نفسه الأبواب جيدا، وأوصد النَّافذة، وأردف عليها الستارة، ثم ذهب للاستحمام تحت الماء الساخن، ثم جلس يحدق في الفراغ.

تعليق عبر الفيس بوك