شوكُ الصّراط

سعيدة البرعمية

الحادي والعشرون من يونيو.. لقد أتى أجمل فصول السنة، بدأت الرياح الموسمية تهُبّ حاملة معها نسمات الهواء العليل، مُوحية برسم لوحة جميلة بدأت ريشتها وألوانها تلوح في الأفق.

في اليوم التالي استيقظتْ سُمُوّ من نومها على أثر صوت قطرات المطر المُتساقطة على شرفتها، المطلّة على الشارع المحاذي لبيتها.

أخذت جوّالها واتجهت مسرعة نحو الشرفة، ياله من مشهد، الرّذاذ يَرْبُت على أكتاف المارّة، عبقٍ رائحة التراب يعانق قطرات المطر. رفعت وجهها للسّماء وأغمضت عينيها، تاركة الرّذاذ يداعب خديها، ناثرا على خُصل شعرها المتناثر لآلئ فضية تتمايل ببريق خرافي.

أخذت روحها تسمو بتجاذب أطراف الحديث مع قطرات المطر؛ فالحديث تلقائي دون تكلُّف... مُناجاة روحية تصحو منها على أثر سقوط هاتفها المحمول ليجد مستقرا له بالأسفل على متن إحدى الشاحنات الناقلة للبضائع، مرّت في تلك اللحظة من الطريق.

توارت الشاحنة كلمح البصر عن ناظريها، ولم تتمكن من رؤية لوحتها؛ نظرا لاكتسائها ثوب الطمي، شعرت وكأنَّ روحها انتزعت منها.

الأب: سُمُوّ هيّا لنفطر معاً.

أجابت بصوت مخنوق، ذهب كُلّ شيء، ضاع جوّالي، ماذا أفعل يا أبي؟

لم تكن شخصية والدها الجادّة الحازمة تتقبل المُبررات أو تُمْعِن في التفاصيل، أخذ يلومها ويصفها بالمهملة؛ لاتخاذها من الجوّال عالما لخصوصيتها، قام من على السّفرة غاضباً متجهاً نحو الباب، وقد احمرّت عيناه وعلت نبرة صوته، قائلاً: عليكِ من الآن وصاعدا تحمّل نتائج استهتارك، لن تري جوّالك منذ الآن؛ لذا تهيئي لرؤية ما سينشر عنك في وسائل التواصل الاجتماعي، وستأتيك اتصالات ابتزازية، مصير محتّم للمهملات أمثالكِ.

وصلت الشاحنة إلى دولة مجاورة بعد يومين، نزل السائق ومساعده وجلسا في المقهى مقابل الشاحنة، وأخذ العمّال يعتلونها لإنزال حمولتها؛ فإذا بالسائق يرى أحد العمّال يأخذ جوّالا ويضعه في جيبه، فصاح به: ويحك أعطني جوّالي، خاف العامل فقذفه إليه بسرعة البرق؛ فالتقفه منه بيدٍ محافظة وعينٍ معاتبة.

نظر إليه وهو لا يعلم كيف السبيل لرده لصاحبته؛ فقد أدرك من شكله أنه جوّال امرأة.

ضغط على الزّر الجانبي، مازال به بعض الشحن، أمعن نظره في صورة الخلفية، إنها صورة المهندس علي أشهر مهندس في المدينة، ما الذي أتى به إلى شاحنتي ؟!

أشار إليه مساعده أنّ هذه فرصة سِيقتْ إليهما لتغير من مجرى حياتهما، ويجب أن يُحسنا استغلالها، الابتزاز مقابل مبلغ كبير من المال، هزّ الآخر رأسه باستحسان الفكرة، قائلاً: نسدّد ديوننا ونحيا ما تبقى من العمر بأمان؛ فقد تكبّدنا طويلاً مشاق السفر وخطورته.

وعلى آخر برج في نهاية الشارع استوطن نظر مساعده، يجول بنظره أعلى البرج، يحلم بوضع حجر الأساس لمشروع قادم على طبق من ذهب، سلسلة من الأفكار يقطعها نداء السائق لعامل المقهى: كوبا آخرا من القهوة.

بعد يومين دخل المهندس علي إلى غرفة ابنته عابساً غير مكترثٍ لحالها، وبيده صندوق لجوّال ووضعه أمامها على المكتب وقال: عليك أن تتعلّمي "الجرّة لا تسلم كُلّ مرة" ثم خرج.

ارتمت في حضن سريرها، تسكب ما تبقى من ماء العين؛ فالفقد عظيم.

وفي المساء، تذكرت وعدها لصديقتها بأن تصّور لها المحاضرات التي فاتتها أثناء مرضها، فتقدمت بخطى متثاقلة نحو المكتب وأخذت تفتح الصندوق؛ فإذا بجوّالها القديم!

صاحت: يا إلهي، ماهذا يا أبي؟!

أيعقل هذا يا أبي؟

الحمد لله، لقد عبرتُ الصّراط بحسنة منسية.

تعليق عبر الفيس بوك