من قال إنكم راحلون؟!

مدرين المكتومية

من المُحتمل أن نجد أنفسنا- في زمن ما- مُحاطين بأعداد كبيرة من البشر، البعض منهم فرضهم القدر علينا دون أدنى اختيار، والبعض الآخر ساقتهم الظروف بكل ود وألفة، لكن أكثرهم ممن ألقتهم الحياة في طريقنا أثناء تنقلنا بين محطة وأخرى وسيرنا من درب لآخر، بين عشية وضحاها، ومنهم من يُكمل الطريق معنا، لكن آخرين يرحلون لسبب أو دون سبب، والأسوأ من أولئك من يُغيرون مساراتهم عند أول مُنعطف نمر به!!

وعلى المستوى الفردي (الأنا) وفي مرحلة ما نجد رغبة تولدت في داخلنا في وقت ما تأخذ في الانطفاء، فلا نعد نملك أية مشاعر نحو الكثير ممن يحيطون بنا، فنلجأ إلى شغل أنفسنا بأيِّ شيء يُبعدنا عنهم، ونفترض دائماً أننا في قمة الانشغال، ونبحث عن الأعذار للابتعاد والتحليق عالياً بعيداً عن أراضيهم، لا لشيء.. لكن لأننا أصبحنا مُثقلين بالكثير من الهموم، ولا نريد أن يضاف إلينا هموم آخرين، فنجد أنفسنا ننسحب بصورة تدريجية، ونختلق الحجج والاعتذارات التي قد لا يكون لها أساس من الواقع! لا أقول نكذب، لكن نعتذر بصورة أو أخرى.

إننا في رحلة البحث عن الذات، نتعرَّض لمراحل من الإحباط أو الإخفاق، أو التعثر حتى، فتارة نطير بمشاعر الفرح إلى السماء، وتارة أخرى تخسف بنا النفسية السيئة في أسفل طبقات الأرض، وهذا ما يعكس طبيعتنا البشرية؛ حيث يجد الإنسان نفسه بحاجة للابتعاد قليلاً والبحث عن بدائل يتعايش معها وتكون أكثر قرباً له من الأشخاص.

عندما نجد أنفسنا قد وصلنا لهذه المرحلة، فإننا قد نلجأ إلى العزلة أو السفر أو تغيير الأماكن والترحال، وفي كثيرٍ من الأحيان نجد ضالتنا في "كتاب" صادف ووجدنا أنفسنا فيه، بنفس الحكاية والقصة، نصاحب أبطاله، نعيش معهم التفاصيل، نبكي لرحيل أحدهم، ونحزن لغياب آخر، تزعجنا النهايات المفتوحة، ترهقنا الكلمات المحشوة في سياقات غير مبررة، لكننا في نهاية المطاف لا يسعنا إلا أن نُكمل القراءة؛ لأنَّ ما يبهرنا هو التشابه مع التفاصيل، أو رغبتنا في أن نعيش تلك القصة بحذافيرها. لذلك يظل الكتاب رفيق الوحدة، وصديق اللحظات، وهذا يقودنا للاستشهاد بقول أبي الطيب المتنبي: "خير جليس في الزمان كتاب".

إننا في زمن يحتاج المرء فيه لأن يكون لديه رفيق دائم لا يتركه، ومتى ما شعر بالحاجة إليه وجده، رفيق لا يغيب ولا يتعب ولا يجد أعذارا للابتعاد، رفيق يحفظ الود، صامت لا يقرأ الأفكار ولا يناقش التصرفات، يجعلنا نشعر معه أننا نولد من جديد، وهذا الرفيق بالطبع لا يصلح سوى أن يكون كتاباً، كتاب يقودنا نحو التفكير بنظرة بعيدة المدى، يجعلنا ننظر للأشياء بزوايا مختلفة، نرى الأماكن المظلمة بصورة مشرقة، ونجد في الظلام أيضاً حياة أخرى.

علينا أن نسعى جاهدين لأن نعلم أبناءنا أن الكتاب لا يهمل، لا يجب أن يكون مركوناً في زاوية ليأكله الغبار، ولا يجب أن نحكم عليه من الغلاف، علينا أن نبحر فيه لنكتشف الكثير، فالشخص القارئ حتماً شخص لن يشعر في يوم من الأيام بأن هناك ما ينقصه، وأن الحياة هي أبيض وأسود، وأن كل النهايات محزنة، بل دائماً سيكون لديه أفق أوسع، ورؤية بعيدة، لديه إحساس مرهف، وأيضاً قدرة على فهم كل شيء من حوله، فهو يستشعر الأشياء وأيضاً يمتلك قدرة على تحليل المواقف، لذلك هو لا يحزن من ردة فعل، ولا يقف عن عقبه ما، ولا يكترث لرحيل أو بقاء أحد، دائماً ما يستطيع أن يكيف نفسه مع أي ظرف من الظروف.

إننا بحاجة لجيل قارئ، جيل مُفكر، جيل يستطيع أن يعوض غياب من حوله برحلة قصيرة بين أغلفة الكتب، وأرفف المكتبات، قادر على أن يعيش السعادة بمفرده محلقاً عالياً دون حاجته لأجنحة، يكفيه أنه يمتلك بين يديه كتاباً يرى أنه أعظم ما يمكن امتلاكه في هذه الحياة.