كُفر النقد !!

 

إسحاق البلوشي

Isehaq26927m@gmail.com

 

 

إنَّ كثرة الآراء التي نسمعها في أيامنا هذه بلا قيد ولا شرط أصبحت مُقززة للآذان ملوثة للأفهام وكثرة مدعي الثقافة والفكر الذين انتشروا بلا حدود ولا قيود أصبحوا وزراً وحملاً ثقيلاً عليها، يسمون أنفسهم كتاباً وأدباءً تارة ومفكرين عباقرة أحياناً أخرى، يوزعون الألقاب والأوصاف لهم ولغيرهم وكأنَّ الحياة لا تستقيم إلا بها، فأصبحت كتاباتهم اتهامات دون إثبات، وتعليلات دون براهين، ونقد دون اختصاص، يزعمون أنهم اكتشفوا من الأسرار والحقائق ما لم يستطع الآخرون كشفه وفهمه اعتقاداً منهم أن طرح الآراء والنقد لا يكون إلا بمخالفة الآخر وبالآراء الشاذة واختلاق البدع.

يتوهم أحدهم أنّه قد جمع العلوم جمعاً وأحاط بالمعارف علماً، يدلي دلوه في هذا وذاك، ويحلل هنا وهناك، تارةً تجدهم في الطب والهندسة، وتارةً في الاقتصاد والسياسة، وللعقائد أيضاً من افتراءاتهم نصيب ومن تغريداتهم العوجاء شؤم مخيب، يستخدمون شيئاً من المصطلحات المتموجة والتعابير المضللة، كما هو شائع في اللسانيات ويستنجدون أحياناً ببعض المفاهيم الدارجة عند فلاسفة السفسطة الزائفة ويستدعون أسماءهم، لتسويق أفكارهم وإثبات حججهم لإيهام المتلقي بأنها الحقائق التي يجب أن يسلموا لها عقولهم، والثوابت التي يجب أن يخضعوا لها رقابهم ولسان حالهم يقول "نحن من أحطنا بكل شيء علما" فلا همَّ لهم إلا أن يضربوا بعصا النقد لا كما ضربت عصا موسى البحر فافترق فشق الناس طريق النجاة، بل أداة تبخس الناس أشياءهم وتسلب المجتهدين نجاحاتهم فلا تتجاوز أطروحاتهم حدود الثرثرة.

نقول لهؤلاء إن العلم بالشيء لا يعني امتلاك أحقية الدفاع عنه ومقومات الجدل فيه، والذين يزعمون أنهم أبطال النقد ورجال التقويم والتصحيح، ربما عرفوا دليلاً وغابت عنهم طرق وأدوات الاستدلال منه، وربما عرفوا قاعدة ولم يعوا عمق أبعادها وشروطها وما عقدت عليه، وجاء في الحديث "رب حامل فقه ليس بفقيه" ألم يسمع هؤلاء يوماً عن معنى الاختصاص وأهميته وعن موازين التنوع الفكري والتعدد الثقافي في العلوم والآداب؟ ألم يقرأ هؤلاء يوما قول الله سبحانه وتعالى "اسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" والآيات الأخرى التي تُرسخ مبدأ الرجوع إلى أهل العلم والاختصاص وسؤالهم عند الالتباس، عندما غابت عن أذهانهم وعقولهم هذه المعاني والآيات وغلبت على كتاباتهم ومقالاتهم أهواؤهم وشهواتهم غابت معها معاني النقد السامية وغلبت عليها أقلام الدخلاء الجهلة فأفسدت ولم تصلح، وفرَّقت ولم تجمع، وهدمت ولم تبن.

إنَّ المُجتمعات في عصرنا هذا ابتليت بلاءً شديداً في بعض أبنائها مدعي الثقافة والفكر، الذين أوجودوا مسوغاً من حرية النقد والتعبير فجاءوا وأرادوا أن يجعلوا بفكرهم من الدين أكذوبة، ومن القيم والأخلاق وهماً وفحشاً، ومن المسؤولية استهزاءً وقبحاً، ولعنة الله على حرية النقد والتعبير إذا تحدَّث بها الجاهل، وجاء بها الفاسق، وتملكتها الشهوات والغرائز من أناس أصيبوا بمرض الشهرة والغرور الذي أدى بهم إلى ما هم عليه من الانزلاق الفكري وحمق الطرح، فلا قضية تشغلهم سوى طرح آراءهم بأي صورة كانت لتجميع الإعجابات وكسب المتابعين المغرر بهم من العوام في مواقع التواصل، التي باتت في يد الصغير الجاهل قبل الكبير المتعلم، وأصبحت في متناول العاصي المذنب قبل التقي النقي، فأصبح الجميع بين عشية وضحاها على درجة قريبة من العلم، وقدرة كبيرة على الفهم. فجاءوا وأرادوا أن يقولوا كل شيء فلم يقولوا شيئاً.

ممارسة النقد وإصدار الأحكام منهج علمي له من الأصول والثوابت لا يستقيم إلا بها، وشخصية الناقد يجب أن تتصف بالانضباط والقدرة على استخدام أدوات النقد في التمييز والترجيح، وإمكانية التعرف على نقاط التماثل والاختلاف قبل الخوض في قضايا النقد وإطلاق الأحكام، فبعض هؤلاء يُريد أن ينسلخ الناس من عقائدهم وإيمانهم ويشكك في الأصول والثوابت ويتهمها، ويتغنى آخر بمدنية وفلاسفة الغرب مزدرياً حضارة الشرق وحكماءها، ويأتي مهموماً حزيناً في آخر الصف ينادي لنصرة المرأة ويصورها بالمظلومة لتنسلخ من حشمتها وحجابها وتقع في براثن المادية المفرطة وفي أحضان الثقافات الشاذة المُتناقضة، التي جعلت من الرجل بهيمة لا ينكر منكراً ولا يعرف معروفاً ومن المرأة سلعة رخيصة.

وفي الأخير لا يجد مقالي هذا إلا أن يخضع لأمانته ويرفع نداءه لأولئك المتصدرين للنقد ويدعوهم لمراجعة خطاباتهم لكيلا تظلم معهم، وليتجردوا من المسلمات الفكرية الشاذة التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع، ليجد النقد أرضيةً مرنة محفزة للتلاقي ويرتد عن كفره.

تعليق عبر الفيس بوك