قصص واقعية

 

جيهان رافع

حين أخبرني بما قال، أدركت أن مهمتي كإنسان بدأت بالفعل.

 نفضت غبار النرجسية عن أفكاري، ورحت أناضل لأثبت لنفسي، عكس تصرفات الناس العاديين، وأنني لم أفقد السلام الروحي الذي درّبت نفسي عليه وعودت نفسي على اتباعه مع الجميع، وتلك الأسئلة أتت بحمولة ظنون زائدة عمّا توقعت. لا. لا . "بحر" أراد أن يثبت أنني غير مُؤهلة للتحقيق، أو أنه شعر بغيرة فائضة من مصداقية المشاعر، فتصرف بغباء، لكن الأشد إيلاماً هو الشعور بالرياء الأجوف، فهو أساس في انهيار الثقة بيني وبين من اتخذت منه مدرسة.

طفتُ على وجه الأيام التي اتبَعتُ بها كلام من واتخذت منه مدرسة بالصدق وجمال الشعور، حيث كنت أصدقه بقدر ما أصدق نفسي، وكان الوقت ماثلاً بين كلماته الحريرية، وكأننا التقينا في حديثٍ مؤقتٍ يملأه الحرص، عن النظريات الغربية، وحرية القلم في البلاد.

ربما لم يفرض علي أحد أن أضع الأعذار دائمًا لمن حولي، لكنني كنت أشعر بالتعاطف والفضول مع كل حالة حتى ولو كانت تسيئ تقديري، وكنت أرجع ذلك إلى قسوة الأيام في بداية مراهقتي، والتي غرست نفسها داخل قناعاتي بعمق السنين العجاف. فمن يظهر أمامك بأطوار عديدة، فهو تارة من النبلاء، وتارة من العبيد، وتارة من العقلاء الحكماء، وتارة من المجانين، ويثير جنونك بصمته المكثف، كليلٍ من دون قمر يجب أن تعلم أنه مرّ بأيام صعبة جدًا حتى أوصلته إلى هنا، وهنا تكمن قوّة المسامحة ووضع الأعذار وقوّة صحتك النفسية والسلام الروحي الذي تعيشه.

من ذاكرة أم

ألقت السلام على جارتها وصعدت إلى الحافلة، غمغمت الجارة بكلمات قبل أنّ يتضح ردّها السلام: هل هذه المرأة مجنونة كي تذهب إلى المستشفى للولادة بحافلة؟

كانت تعلم جيداً أنّ زوجها أتى منذ أيام من الاغتراب، ولكن أجابت على تساؤلها جارتهم الثانية عندما رأت دهشتها لا تأخذك الدهشة كثيراً فنقصان وزنها عن وزنها الطبيعي قبل زفافها (4 كيلوجرامات) وهي لم تكمل السنة السابعة عشرة من عمرها عند بلوغها الشهر التاسع للحمل، كافٍ ليترك جميع الإجابات تتحدث.

في فجر اليوم التالي، أحد أيام أغسطس الحارّ، رسمت غفوته في حجرها على وجهها ملامح قوس قزح، كسر ظلمتها بنظرة عائمة على وجه البداية، جلست تمعن الحبّ في ملائكيته، في طهر صفحاته الأولى.

بعد سديمية من السنين وفي أحد أيام سبتمبر، قصّ أظافر أحلامها العابثة، فستانٌ ورديّ الحنين، حاكته لابنتها من نايات أيامها، فجعلت الخوف يلبسها، وتقدمت على كل الأثواب بضيق الفضاء بها، وغسلت جميع خطاها من اتساخ الضعف، فبدت قوية بوجه الجميع ضعيفة أمام قوة حبهما، لقد جعلا من شكّها يقيناً، ومن أحجية الضحك حلاً للسير حافيةً على السراب، فصارا أجنحةً لروحها وحقيقيّة الحصاد.

هي الآن في الخريف الرابع لفصولها، يكفيها أنّها لم تغرس ساقا أمومتها في طين الهجرة، ولم تمت على مسارح الأسماء، متجرّدة من خدعة الأحكام، تسرّح شَعر ذاكرتها، غير آبها بما ذهب مع رياح الألم من ربيع الحياة، تتكئ على كتف لهفة جبلها الأوحد، وتأنّق شرفة بقاياها، ترمي السهام على ماضيها فلا تصيب إلّا بالحزن قلبها، ومن قاع ذاكرتها تروي لابنتها وهي تحمل زبد أمواج الماضي بين شفتي الرواية، وعلى متن قوارب أوراق خريفها، حكايتها التي لا يصعد من رائحتها إلّا دخان وحدتها مع زفرة العتاب من اختناق صمام الأمان في وريدها، فتسبّح بالغفران خرز سبحة سنونها العجاف، ليبقى ولداها في أحضان الحياة والفرح.