القوى الناعمة العُمانية

د. علي بن أحمد العيسائي

عُمان دولة يكتنفها بعض الغموض، لدى الكثيرين خاصة من الأشقاء العرب، ومما يُثير مزيدا من الدهشة لديهم أنَّ هذا الغموض يتزايد مع معرفة بعض الحقائق عنها، سـواء على مستوى سياستها الداخلية التي تجمع بين الأصالة والتحديث، أو سياستها الخارجية المُستقلة والتي تدعو للسلام حيث تنحو دائمًا إلى التواصل بدلاً من العداء، وإلى السلام بدل الحرب، وإلى التركيز على ما يجمع بين الشعوب لتحقيق التنمية ونبذ الخلافات المتنوعة سواء كانت دينية أو عرقية أو مذهبية أو غيرها، كما أنها ترتبط بعلاقات سياسية مُمتازة مع من هم خصوم متباينين. وعندما يناقشني أحد الأشقاء عن عُمان فإنني أحس واستشف أصداء تلك التساؤلات لديه وإن لــــم يطرحها صراحة. والواقع ليس هنالك غموض إنما هو عدم معرفة بعُمان وتاريخها وشعبها.

وأعتقد أنَّ المسألة الأساسية في معرفة جوهر عُمان هي قوى ذاتية كامنة تطورت عبر التاريخ والتجارب في الشعب العماني وما اكتسبه من طريقة حياة وتعامل مع الآخرين. وهذه القوى الذاتية هي القوى الناعمة. فالقوى الناعمة العمانية هي التي تميز عُمان في ذاتها وسياستها وسمات شعبها وتاريخه.

 نشأت هذه القوى نتيجة للموقع الفريد لعُمان، ليس فقط الفريد في الموقع الجغرافي، لكن في كونها تقع على حدود فاصلة بين حضارات مُختلفة مثل الحضارة الفارسية والحضارات الهندية والإفريقية والبابلية وحتى حضارات جنوب شرق آسيا وأهمها الصينية. وهي وإن كانت في أقصى أحد أطراف الوطن العربي إلا أنها "في القلب" التاريخي والعرقي للعرب لكونها في نفس الوقت الجــزء الشرقي للجزيرة العربية مهد العرب. فالشعب العماني وإن كان عربي المنبت والأصل إلا أنَّ هذا الموقع جعله على تواصل وتفاعل مع حضارات وشعوب أخرى مما جعله مؤهلاً ليكون متفاعلاً وناقلاً لناتج هذه الحضارات المادي والمعرفي. وكان من أهم نتائج هذا الموقع الفريد الذي جعلها بين بحر من جانب وصحراء الربع الخالي أو الصحراء العربية الكبرى من جانب آخر تبنيه لقوى ناعمة كثيرة لتساعده في حياته مع هذا الموقع.

 أولى وأهم هذه القوى هي المهارة في الإبحار والسبق في ركوب البحر: إذ يُعتقد أنَّ العمانيين هم من أوائل الشعوب التي ارتادت البحر واتقنت الملاحة ومتطلباتها من معرفة جغرافية، وفلك بالاستدلال بالنجوم، ومعرفة مواسم الرياح واتجاهاتها، وكذلك أدوات الملاحة مثل البوصلة. وكان السبق في هذه المعرفة من عوامل القوة الكبيرة لدى العمانيين خاصة قديماً مما جعلهم يمتلكون واحدة من أهم المعارف الإنسانية وهي التي مكنتهم من التعامل مع الحضارات والشعوب الأخرى، وهي التي تفسر وصول العمانيين إلى أماكن بعيدة كالصين كما أنها توضح ندية التعامل العماني مع حضارة عظيمة جارة مثل الحضارة الفارسية.

 وثاني هذه القوى الناعمة هي دمج المهارة في الملاحة بالنشاط التجاري: حيث نشأ تكامل بين ربابنة السفن والملاحين مع تجار نشيطين وماهرين ومغامرين ليكونوا من أكبر المستفيدين من التعامل التجاري والمعرفي بين الشعوب خاصة في أهم السلع كالتوابل والملابس والعطور والعاج والقهوة، وقد قيل قديماً يكفي ليكون العمانيون أغنياء نقلهم ومتاجرتهم في واحدة من هذه السلع. إضافة إلى نقل المعارف والسلع المحلية العمانية مثل النحاس واللبان والبخور والتمور والليمون والمنتجات البحرية للشعوب الأخرى.

 أما القوة الثالثة فهي الإطار القيمي الذي حكم السلوك والتعامل الملاحي والتجاري العماني مع الآخرين:

كانت قيم الصدق وفضائل السلوك ونبل الأخلاق تحكم تعامل العمانيين مع غيرهم "لو أن أهل عُمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك" شهادة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم. وبعد الإسلام أدت هذه الأخلاق لنشر الإسلام من قبل العمانيين بالحسنى والإقناع.

بالتأكيد جميع هذه الأخلاق لا تنطبق على كافة العُمانيين خاصة في وقتنا الحاضر بعد تغيير أخلاق كثير منهم.

 رابع القوى هي تبني لنظام سياسي ذي كياسة وحكمة يحمي البلد ومنجزاته: هذا النظام السياسي تشكل نتيجة اطلاع وتعامل العمانيين مع الحضارات الأخرى وشعوبها ومنطلقاً من فكرة الحرية الضرورية لأسلوب حياته المعتمد على الملاحة والتجارة.

 فبتعمقنا في مطالعة التاريخ العُماني يتبين لنا أنَّ الكيان السياسي العماني هو من أقدم الكيانات السياسية، كما تميز على الدوام بقيادة ونظام حكم وطني لم ينقطع منذ آلاف السنين، فرغم كل محاولات الغزو والعدوان التي تعرضت لها عُمان إلا أنَّ هؤلاء الغزاة لم يتمكنوا من بسط سيطرتهم على كامل أراضيها المنتشرة وكانت قيادتها وأبناء شعبها التوّاق للحرية يحتفظون دائماً بمساحات حرة ينطلقون منها لتحرير بقية أجزاء الوطن.

 خامس القوى هو خبرة العمانيين في التعامل مع الحضارات والشعوب الأخرى: استطاع الفرد العماني التشبع بالمفاهيم الحضارية للثقافات الأخرى وخبر كيفية التعامل مع شعوب هذه الحضارات والبلدان. فهذا التاجر العماني عبد الله أبو القاســـــــم في بلاط الدول الإمبراطورية، بعد أن وصل إلى الصين كمندوب معتمد لدى الصيـــــن عن مدينة صحار، عاصمة عمان في ذلك الحين، في نهاية الألفية الأولى وبداية الألفية الثانية للميلاد في عهد "أسرة سونج" حيث منحه الإمبراطور لقب "جنرال الأخلاق الطيبة" كما عينه ضابطاً للهجرة في مدينة قوانغتشوا.

وفي المُقابل أجاد العماني أيضاً التعامل مع أبناء الحضارات التي تقوم على القبيلة والتي لم يسبق لها التواصل مع غيرها، في حين لم يكن غيرهم يستطيع الوصول إليها والتعامل بما يتناسب مع عقلية تلك الشعــوب. فنجد التاجر العماني الآخر الذي وصل إلى أدغال أفريقيا وعرف كيف يتعامل مع زعيم إحدى القبائل في المنطقة وأسر قلبه بهدية مُتواضعة، فقد قدّم إليه "مرآة" وكانت تلك هي المرة الأولى التي يتمكن  فيها  ذلك الزعيم من النظر إلى صورته في المرآة مما كان له تأثير عظيم عليه، فأهدى بدوره التاجر العُماني كميات ضخمة من العاج وسمح له بالصيد في منطقته هو ورفاقه وكانت تلك الواقعة هي بداية دخول العمانيين أولاً إلى هذه الأدغال مما مهد لانفتاحها على العالم الخارجي.

 سادس هذه القوى مفهوم البعد الجيوستراتيجي الذي تبناه العمانيون مبكرًا: كان مدلول القوة الحقيقية قديًما يتمثل في السيطرة على أكبر مساحة من اليابسة. ومع بداية القرن الرابع عشر وبصعود القوى مثل البرتغال وأسبانيا وبريطانيا وفرنسا وهولندا كقوى رئيسية كبرى تغير مفهوم البعد الجيوستراتيجي في العالم فأضحت الدول البحرية في مُقدمة القوى الكبرى. بينما كانت عمان سبّاقة في تبني هذا المفهوم وممارسة النفوذ على بعض المناطق الساحلية لحماية تجارتها وملاحتها.

وسابع القوى هو التبني المُبكر لفكرة العولمة:

 إن التواصل الحضاري والثقافي للشعب العُماني مع الحضـارات والثقافات المحيطة مثل الفارسية والهندية وكذلك حضارات آسيا وإفريقيا جعله يتبنى ومنذ توقيت مبكر فكرة التعددية الثقافية أو ما يُمكن أن نطلق عليه بالمفهوم المعاصر"العولمة"، فهو من أوائل الشعوب التي طبقت الممارسة الفعلية قديماً لما يمكن أن يقال عنه العولمة. كما أنَّ العمانيين تبنوا مبدأ "فوز- فوز"، وليس"فوز - خسارة " في التعامل مع الغير. ونضرب مثلاً على ذلك بالتكامل بين العمانيين وأشقائهم اليمنيين خاصة الحضارم-سكان حضرموت اليمنية- إذ قامت علاقة فريدة بينهما فيما يتعلق بالتجارة والملاحة مع الحضارات الأخرى، فالعمانيون وهم ملاحون يقومون باصطحاب أشقائهم الحضارم على سفنهم إلى مناطق في آسيا وإفريقيا، فيقيم الحضارم في هذه المناطق ويتاجرون مع السكان المحليين ليأتي العمانيون ويشترونها من الحضارم لينقلوها بسفنهم بين الشعوب والمدن المختلفة. وكذلك أخذ العمانيون الشيرازيين إلى زنجبار.

 

القوة الثامنة: مساهمة العمانيون في الحضارة العربية والإسلامية والعالمية.

ينظر إلى هذا الأثر على أنه القوى الناعمة الظاهرة لدى عامة الناس، وهذه القوة تشمل المساهمة للعُمانيين في التراث الإنساني بشكل عام، والعربي، والإسلامي بشكل خاص سواء كان التراث ماديا أو غير مادي من ثقافة وفنون وآداب وقادة سياسيين.

وللإيجاز يمكن ذكر نماذج عليها:

فيما يتعلق بالقادة السياسيين يتوارد إلى الأذهان المهلب بن أبي صفرة، وناصر بن مرشد اليعربي مُحرر عمان من البرتغاليين وسيف بن سلطان اليعربي الذي طردهم من المنطقة وسعيد بن سلطان البوسعيدي الذي عقد اتفاقيات تجارية مع كثير من الدول، والمغفور له السلطان قابوس بن سعيد رجل السلام.

وفي الأدب واللغة الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب علم العروض، والعوتبي في الأنساب واللغة، وابن عميرة في الطب، ونور الدين السالمي في الفقه، وأبو مسلم البهلاني في الشعر، والخضوري وأحمد بن ماجد في الملاحة.

وهنالك الكثير من الإنتاج والتراث المادي وغير المادي الذي أنتجه العمانيون.

 

 ختاماً يمكن القول بأنَّ القوى الناعمة العمانية كانت سابقة لغيرها فيما يتعلق بعناصر أساسية عديدة وهذا ما قد يغيب عن الكثيرين ويقدم شيئاً من التوضيح الذي قد يساهم في إزالة أسباب اللبس والغموض الذي قد يستشعره البعض عن عُمان ومواقفها السياسية المتوازنة والشخصية العمانية المتحضرة والهادئة. فباختصار فالشعب الذي تقوم حياته على الملاحة والتجارة ويرتكز على قيم تدعو للتسامح وحسن المُعاملة بطبعه ينحو للسلام وقيم الحرية والاستقلالية في اتخاذ قراراته، وهذا ما يغيب عن أذهان البعض عندما يحاولون فهم عُمان وسياستها وشعبها.

تعليق عبر الفيس بوك