د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري *
إنَّها كلمات ليست كالكلمات، عفويَّة فطرية بسيطة من القلب، كان لها فعل السحر، فتحت مغاليق قلوب ران عليها كدر كبير عبر مرحلة الجفاء المرير .
ذلك الترحيب الحميمي لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بأخيه صاحب السمو الشيخ تميم أمير دولة قطر، أشاع فرحة غامرة شرحت الصدور. ختمت قمة التعاون الـ41 -"قمة السلطان قابوس والشيخ صباح" رحمهما الله تعالى، تكريماً لجهودهما وتنويهاً بمآثرهما في توطيد قواعد البيت الخليجي- أعمالها بمصادقة قادة دول الخليج كلهم، بمن فيها الدول الخمس المتنازعة على "بيان العلا"؛ إيذاناً بلحظة فارقة لمسيرة العمل الخليجي كما قال أميرنا.
مرجع الفضل فيما تحقق اليوم، بداية ونهاية، إلى كرم المولى على الخليجيين أنْ ألهم قادتنا الحكمة التي مكنتهم من تجاوز الأزمة التي عكست ظلالها السلبية: تصدع الخليج، شل العمل المشترك، تصاعد خطاب الكراهية والشتم والتنابز، حتى صرنا طبقا للشاعر:
كلانا غني عن أخيه حياته.. ونحن إذا متنا أشد تغانيا
ولكنَّ لطف المولى تدارك الخليجيين فألهم حكيمهم أمير الكويت الراحل الشيخ صباح الذي نذر نفسه لرأب الصدع، واحتواء الخلاف، وتحجيم الشقاق، وإعادة اللحمة . كيف لا وهو أبو الدبلوماسية الإنسانية، الذي استطاع تفكيك مفاصل أعظم المصعبات داخليًّا وخارجيًّا! وترك بصماته الحانية في كل مكان. هذا الإنسان الاستثنائي بذل جهداً تنوء به الجبال، رحلات مكوكية لعواصم الخصام، بعزيمة لا تعرف الكلل ولا الملل، لم يحبط، لم ييأس، لم يتعب، وظل متمسكاً بالأمل حتى لقي وجه ربه وبسمته المشرقة تعلو محيَّاه. ولأن رحمة الله لا تنقطع تصدَّى خلفه الشيخ نواف أمير دولة الكويت، وأتمَّ المهمة الجليلة فكانت هذه القمة التي فتحت الحدود وشرحت الصدور وأزالت العوائق والسدود، وإلا هل كان متصوراً، قبل، ذلك المشهد التاريخي لولي العهد السعودي محمد بن سلمان مستقبلا أمير دولة قطر عند الطائرة، منادياً بود: يا الله حيه، يا الله حيه.. نورت المملكة، يتلوه عناق عميق يذيب رواسب السنين.
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما… يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
لقد بَرْهَنت الأحداثُ على امتداد مسيرة التعاون الخليجي أنَّ حكمة القادة قادرة على تجاوز أية خلافات في البيت الخليجي، طبقاً لوزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان خلال المؤتمر الصحفي، والأمين العام الدكتور نايف الحجرف مؤكداً: أن دول الخليج تتجاوز عادة كل التحديات بقوة وعزم.
سيشهد التاريخ الخليجي أنَّ القمة استطاعت تفادي حقول الألغام وتجاوز الشروط الـ13، وطي ملفها؛ إعلاءً للمصلحة الخليجية العليا.
ذات يوم، قال السفير الملهم عبدالله بشارة أول أمين عام للمجلس: الخليج هو الجزء الصحي السليم في الجسم العربي، ولا يزال كذلك.
كان ملف المصالحة، في تصوري، امتيازاً كويتياً بداية ونهاية، ودعك من الأقاويل المرسلة، واحترم الجميع داخلياً وخارجياً هذا الامتياز، وبرهنت الدبلوماسية الكويتية العريقة نجاعتها، وكانت المساندة العمانية والأمريكية معززتين لها.
وإنصافاً لكل هذه الجهود من العمل الدؤوب، فإن طَي صفحة الماضي لم يتم بطريقة "حب الخشوم" كانت حوارات شاقة ومفاوضات مضنية سنوات. علينا عدم بخس الجهود حقها ولهذا كان منح مهندسها الشيخ الدكتور أحمد الصباح وزير الخارجية الكويتي الوسام مستحقاً.
الذين لم يستوعبوا فرادة الحدث ورأوه مجرد "شو" إعلامي معذورون، لكنَّنا تجاوزنا الأصعب والباقي تفاصيل. والأزمة صارت وراء ظهورنا، ونحن اليوم أمام مشهد مختلف ينبئ ببداية مختلفة للعمل المشترك، يحفظ الأمن والاستقرار لدولنا، ويحقق الرخاء والازدهار، ويسهم في تنويع مصادر دخلها عبر سوق خليجية واعدة.
أعظم الدروس المستفادة: أنَّه ومهما كانت الخلافات فما يجمعنا أكثر مما يُفرقنا، وأن علينا استيعاب تنوع الاجتهادات السياسية المختلفة لدولنا أعضاء مجلس التعاون كسياسة لتبادل الأدوار؛ فذلك ظاهرة صحية كما الاتحاد الأوروبي، وقديماً قالوا "اختلاف الفقهاء رحمة".
وأخيراً.. تبقى أسمى آيات الامتنان للوقفة الأخوية الصادقة لأهلنا في عُمان والكويت زمن المِحنة، لن ينساها القطريون أبداً.
* كاتب قطري