فكر الإقصاء

د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري *

لا يُمكن لثقافة الديمقراطية أن تحيا في مجتمع يسُوده الإقصاء فكراً ومنهجاً. الإقصاء أخو التعصُّب أصل الداء، ومصدر التفرُّق والتطرُّف والاستعلاء. ثقافتنا التراثية إقصائية للآخر: مَذهباً أو طائفة أو فرقة، هو مشكوك في عقيدته، وما نزاعات المِلل والنِّحل التاريخية وتكفيرها بعضها بعضاً إلا مظهر من مظاهر الإقصاء.

فكر الإقصاء أنتج 6 مظاهر مُعِيقة لثقافة الديمقراطية:

أولًا: التكفير؛ وهو نوع من احتكار الفهم الديني، وتملك العقيدة الصحيحة، أصحابها يدخلون الجنة، ونفيها عن الفرق الأخرى ووصمها بالخارجة عن الإسلام أو الضالة والمنحرفة والمبتدعات، بناءً على حديث تنبأ بافتراق الأمة 73 فرقة، كلها في النار إلا فرقة واحدة هي "أهل السنة والجماعة". وطبقاً للهرماسي: فإنَّ تاريخ المسلمين هو تاريخ الصراع بين نزعة احتكار تأويل النص المقدس من شخصيات وهيئات دينية، ونزعة مضادة تُنكر شرعية هذا الاحتكار، وتعطي كلَّ مسلم حقَّ التعاطي مع المرجعيات المقدسة. وما كُتِب في نُصرة الفرقة الناجية كان هدفه إقصاء التنوع المذهبي الرحب لفرض وحدة مفتعلة يأباها الزمن المتجدد.

ولعل أول مظاهر الإقصاء التكفيري، تمثل في تكفير "الخوارج القدامى" للمجتمع الإسلامي لدرجة استحلال دماء وأموال من يخالفونهم من المسلمين. أطلقوا على أنفسهم "الموحدين"، وسموا خروجهم المسلح "جهاداً" لتمتد أفكارهم إلى العصر الحديث وتحيا على أيدي "الخوارج الجدد"، وبقية من الفكر السلفي الإقصائي.

ثانيًا: التخوين؛ وهو الوجه السياسي للتكفير، وإذا كان جانب من الخطاب السلفي تكفيريًّا، فإن جانباً آخر من الخطاب "الصحوي"، وكذلك "القومي" تخويني. "التخوين" إفراز فكري مرضي، يحتكر صاحبه "الوطنية" وينفيها عن المخالفين، في ادعاء شمولي تسلطي يُعبر عن إفلاس فكري، شاع في ستينيات القرن الماضي فترة هيمنة المدين: الناصري والبعثي على الحياة السياسية العربية، فكل من لم يصطف مع النظامين الناصري والبعثي متهم في وطنيته وعدو للشعب وعميل للاستعمار، وما زالت الحياة العربية تعاني من آثاره.

ثالثًا: التمييز؛ فالتمييز التشريعي الممارس تجاه المرأة المواطنة، في حقها بنقل جنسيتها إلى أولادها أسوة بالرجل، وكون ديتها نصف ديته، وشهادتها نصف شهادته، وتقييد تصرفاتها بموافقته، التمييز إقصاء وظلم عظيم.

ولدى قطاعٌ مجتمعي عريض حساسية مرضية تجاه أي ظهور للمرأة في الحياة العامة، خاصة المجالات السياسية والقيادية.

رابعًا: التصنيف؛ تصنيف المواطنين إلى أصلي ومتجنس أو بدون أو وثيقة أو درجة ثانية... وغيرها من التصنيفات الإقصائية (العرقية واللونية والطبقية) المخالفة للدساتير الخليجية نفسها، ولكافة المواثيق الحقوقية الدولية المصادقة عليها خليجيا.

خامسًا: عدم قبول الآخر الديني، من أتباع الديانات الأخرى، بالانتقاص من حقوقهم السياسية والمناصب القيادية والتضييق على حرياتهم الدينية في المعتقد وإقامة الشعائر وبيوت العبادة.

سادسًا: خطاب الكراهية؛ وهو أخطر مظاهر الفكر الإقصائي. فهؤلاء الأبناء من شبابنا المسلم المتحمس، من هم في عمر الزهور، الذين انقلبوا علينا وعلى أوطانهم، ناقمين كارهين مفجرين، هم ثمار خطاب الكراهية: كراهية الحياة، كراهية الوطن والدولة، كراهية الحضارة المعاصرة.

يتغذى هذا الخطاب بأوهام الغزو الفكري، والعولمة الخبيثة، والتآمر العالمي، ورواسب الحقد الصليبي، وبالدعاء على الآخرين بالهلاك، هو خطاب تعبوي شعبوي غاضب وناقم، لا يتسامح مع مفكر أو مغرد خالف الرأي السائد، يضيق بالحريات ويفرح بمصادرة الكتاب وبملاحقة المغردين والكتاب.

أخيرًا.. وطبقاً لوحيد عبدالمجيد "أزمة العقل العربي.. التخوين والتكفير"؛ فإنَّ الخطاب الإقصائي خطاب آحادي يُصادر التعددية، ويشيطن المختلف، وينشر الخوف، وينتج ذهنية التفسيرات التآمرية للأحداث: هجمات 11 سبتمبر 2001، غزو الكويت، وجائحة كورونا.

ثقافة الديمقراطية تقوم على معطيات ضرورية تتمثل في سيادة القانون، وتكافؤ الفرص، ومساواة الجميع، وتوازن الحقوق والواجبات، والإقلاع عن التخوين والتكفير، فلا أحد يملك الوصفة السحرية لحل المشكلات.

وختامًا.. علينا تجاوز خطاب الكراهية ومواريث الإقصاء، إلى ما يعزز التكامل، ويعظم التعاون، ويغلب نهج المصالح المشتركة.

لنطوي صفحة الماضي بنزاعاته ومآسيه وأحزانه، لنستقبل عاماً جديداً مُبشِّراً بخليج متماسك، قادر على مواجهة التحديات.

* كاتب قطري