هل الدنيا تغيرت؟

 

جابر حسين العماني

Jaber.alomani14@gmail.com

 

من العبارات الرائجة التي كثر تداولها بين النَّاس (الدنيا تغيرت) فهل الدنيا تغيرت فعلاً؟، ومن الذي غيرها؟ الواقع العقلاني يقول: الدنيا لا تتغير لأنها لا تمتلك عقلاً مفكراً لتستطيع به تغيير أحوالها!!

والحق يقال: إن من تغيرت هي القلوب والقيم والمبادئ والأخلاق التي يفترض أن تكون راسخة في الأجساد التي وهبها الله وميزها بالعقل المفكر، ذلك الجهاز العظيم الذي اختصه الله تعالى للإنسان دون غيره من المخلوقات. جاء في كتاب المحاسن نقلاً عن السندي بن محمد، عن العلاء، عن محمد، عن أبي جعفر، وأبي عبدالله، قالا: (لَمَّا خَلَقَ اَللَّهُ اَلْعَقْلَ قَالَ لَهُ: أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ، فَقَالَ: وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي مَا خَلَقْتُ خَلْقاً أَحْسَنَ مِنْكَ، إِيَّاكَ آمُرُ وَإِيَّاكَ أَنْهَى، وَإِيَّاكَ أُثِيبُ وَإِيَّاكَ أُعَاقِبُ).

وهنا نستفيد: أن الدنيا لا تستطيع تغيير أحوالها، أو تغيير البشر، وإنما الإنسان هو من يستطيع بعقله وذكائه وفطنته وحنكته تغيير الدنيا وما فيها، ونقلها من حال إلى أفضل حال. عندما ينشأ الطفل الصغير على العداوة والكراهية وينتهج منهجاً مخالفاً للقيم والمبادئ الإنسانية والإسلامية علينا ألا نحمل ذلك الدنيا، تحت شعار وشماعة تغيرت الدنيا، وإنما علينا أن نعلم أن المحيط الأسري الذي يتعايش معه الطفل لم يمنحه القدوة الحسنة، بل جعله يسلك ذلك السلوك السيئ المتمثل في الكراهية والأحقاد والضغائن.

وعندما يعق الأبناء آباءهم وأمهاتهم المسنين، ويطردونهم إلى دور الرعاية الاجتماعية للمسنين والمعاقين، ولا يسألون عنهم إلا بعد موتهم بقصد الاستيلاء على ما تركوه من الميراث، فذلك سلوك في حد ذاته سيئ جدًا، ولكنه لا يعني أن الدنيا تغيرت، بل يعني أن الأخلاق نُسيت وهُجرت، مما جعل أصحاب ذلك السلوك يساهمون بشكل مباشر في تغيير جمال وإبداع قيم الحياة الإنسانية الأصيلة، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، وقال: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.

واليوم كما نعلم توقفت الحياة بما فيها فلا مطارات ولا مدارس ولا جامعات ولا مطاعم بسبب فيروس صغير لا يُرى بالعين المجردة، وهو فيروس كورونا الذي استطاع شل الحياة الاجتماعية بأسرها، فمن عجائبه الغريبة جعل الحيوانات تسير في الشوارع بلا خوف ووجل، وجعل الإنسان العظيم المكرم خائفا ذعرا هلعا محجورا بين جدران بيته، هنا أيضاً على الإنسان أن لا يكرر كالببغاء أن الحياة تغيرت ليتخلى بذلك عن مسؤولياته الملقاة على عاتقه تجاه نفسه وخالقه ومجتمعه، بل عليه أن يعلم أن كل ما حصل له وللعالم أجمع من متغيرات عجيبة وغريبة ما هو إلا نتاج تقصيره وإسرافه تجاه نفسه وخالقه ومجتمعه، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}..

إن المتأمل في حياة المجتمع اليوم يرى هناك بعض شرائح المجتمع من الشباب والفتيات وباسم الحرية الشخصية والتحضر والتقدم والازدهار يسخرون من الإسلام وتعاليمه الأصيلة، فلا يحترمون العلم والعلماء، ولا يقدرون القيم والمبادئ والكفاءات الاجتماعية، بل وصل بهم الحال إلى الانحطاط الأخلاقي والسلوكي مما جعلهم يقتنعون اقتناعاً كاملا أن تصرفاتهم تصب في ازدهار الحضارة البشرية، وهنا أيضاً علينا ألا نحمل تلك التصرفات الخطيرة والجائرة والفردية لهذه الدنيا تحت عنوان تغيرت الدنيا، فالدنيا لا ذنب لها ولا هم يحزنون، بل يجب إلقاء اللوم الكامل على أولئك المقصرين في حق أنفسهم ودينهم ومجتمعهم، فهم يتاجرون باسم الدين والحرية والتقدم والحضارة على حساب القيم والمبادئ الإسلامية والإنسانية النبيلة وذلك بتوجههم القائم على عدم احترام أهل العقل والعلم والدراية والحكمة في المجتمع.

قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}، وقال أمير الكلام الإمام الهمام علي بن أبي طالب: "كُنُ في الحَياةِ كعَابِرِ سبيِل ** وَاتْرِكْ وَرَاءَكَ الأَثَرَ الجَميِل فمَا نَحْنَ فَيهَا إلا ضِيوف ** وَمَا عَلىْ الضَّيوفِ إلَّا الرَّحِيل"، فعلى كل فردٍ في المجتمع البشري معرفة حدوده تجاه نفسه ومجتمعه وخالقه، فإنَّ معرفة الإنسان لحدوده تمنحه الكثير من الراحة النفسية والسلام والاطمئنان والاستقرار، بل وتبعده عن الظلم والجور والعصيان، الذي يكون مصيره فساد الحياة الاجتماعية والأسرية، فإن من يمتلك معرفة النفس واحترام الغير والقرب من الله تعالى حتمًا سيستطيع القيام بواجباته العبادية والاجتماعية تجاه نفسه وخالقه ومن حوله بما يُؤهله لنشر المحبة والمودة للجميع، بل وسيُسهم في تغيير الحياة الاجتماعية والأسرية نحو حياة أفضل وأجمل، قال الإمام علي بن أبي طالب: (رَحِمَ اَللَّهُ اِمْرَءً عَرَفَ قَدْرَهُ وَلَمْ يَتَعَدَّ طَوْرَهُ)، وقال: (رَحِمَ اَللَّهُ عَبْداً رَاقَبَ ذَنْبَهُ وَخَافَ رَبَّهُ.