أ.د. حيدر أحمد اللواتي *
في هذا العالم هناك قوى عظمى في كل مجال من المجالات؛ فهناك قوى عظمى في السياسة وفي الاقتصاد وفي التعليم، بل وحتى في كرة القدم، سنجد أن هناك قوى عظمى تفرض سيطرتها وتتحكَّم بذلك المجال تحكُّما يتناسب مع قوتها؛ فكلما زادتْ قوتها زادت سيطرتها وتحكمها في ذلك المجال.
وفي عالم الطبيعة، نحن نُدرك أنَّ القوة إما أن تكون قوة جاذبة أو نافرة، ولكن ما هو سبب الذي يجعل القوة جاذبة أو نافرة؟!
لا شكَّ أنَّ مفهوم الشحنات المتشابهة والمختلفة قد قَفَز إلى ذهنك؛ فنحن نعلم أنَّ الأجسام التي تحمل الشحنات المتشابهة تتنافر، والأجسام التي تحمل الشحنات المختلفة تتنافر، وتعرف هذه القوة بالقوة الكهرومغناطيسية، وتعد إحدى القوى الرئيسية التي تتحكم بعالم الطبيعة. وبالإضافة إلى هذه القوة، هناك ثلاثة أنواع أخرى من القوى ذات طبيعة مختلفة تماما تلعب أدوارا مهمة في العالم؛ فهي تقوم بجذب الأشياء بميكنة مختلفة لا علاقة لها بالشحنات المتشابهة والمختلفة.
اثنان من هذه القوى تلعب دورا مهمًّا داخل نواة الذرة تعرفان بالقوى النووية القوية والقوى النووية الضعيفة؛ الأولى هي التي تحافظ على تماسك البرتون والنيوترون داخل نواة الذرة، فالبرغم من أن البرتونات تحمل شحنة موجبة، لكنها تبقى مُتماسكة بسبب القوى القوية؛ لذا تعد القوى الكهرومغناطيسية أضعف منها بـ100 مرة، لكن القوى النووية القوية تكون مؤثرة في مدى قصير جدا لا يتجاوز قطر البروتون؛ فهي تختفي تماما وليس لها أثر اذا زادت المسافة عن قطر البروتون، أما القوى النووية الضعيفة فهي القوى المسؤولة عن بعض الظواهر الفيزيائية داخل النواة كالتحلل الإشعاعي.
لكننا سنركز حديثنا هنا عن القوَّتين الأخريين، وكلاهما له أثر كبير ومباشر على حياتنا وهما قوة الجاذبية والقوى التي تسمَّى الكهرومغناطيسية وسنسميها القوى المغناطيسية، وهو تبسيط لا يخل بالمفهوم العام لهذه القوة.
وتعدُّ هاتان القوتان من أهم القوى التي تتحكم في حياتنا فقوة الجاذبية والقوى المغناطيسية في تماس مباشر معنا، فالأولى هي التي تجعلنا نستقر على الأرض وهي التي تمنعنا من الطيران فإذا قفزت فإن هذه القوة ستجذبك إلى الأرض، وأما الثانية فهي التي تتحكم بجميع التفاعلات الكيميائية التي تحدث من حولنا، وفي أبداننا فهي المسؤولة عن ذوبان الملح في الماء وهي التي تلعب دورا مهمًّا في هاتفك النقال الذي لا يفارق راحة يدك، لذا فهي من أهم القوى الأربعة بالنسبة لنا جميعا.
وقد يتساءل البعض: ما هو الفرق بين قوى الجاذبية والقوى المغناطيسية، والواقع أن هناك عدة فوارق مهمة؛ فقوى الجاذبية عند مقارنتها بالقوى المغناطيسية، تعدُّ قوى ضعيفة للغاية فهي أضعف من القوى المغناطيسية بـ3610 أضعاف، وهذا الفارق يقارب الفارق بين أصغر ذرة في هذا الكون وهي ذرة الهيدروجين وقطر الكون المرئي برمته، (يقدر قطر ذرة الهيدروجين بـ10-10م ويقدر قطر الكون المرئي بحوالي 1026م كما ورد في موسوعة "ويكيبيديا").
ويمكنك التحقق من ضعف قوة الجاذبية بتجربة بسيطة يمكنك القيام بها في منزلك بأن تأخذ مسمارا من حديد، وتضعه على الأرض، ثم تقوم باستخدام مغناطيس صغير جدا وقربه من المسمار، وستجد أن المغناطيس قد تمكن من أن يجذب المسمار من الأرض؛ فهذا الجسم الصغير يملك قوة مغناطيسية أقوى من قوة جاذبية الكرة الأرضية برمتها.
وقد تتساءل إذا كانت قوى الجاذبية بهذا الضعف، فلماذا لها هذا التأثير البالغ إذن؟
إنَّ سببَ التأثير البالغ لقوى الجاذبية هو أنَّها تزيد مع زيادة كتلة الأجسام؛ لذا فبالنسبة للأجرام السماوية الضخمة فإنَّ هذه القوة مهمة جدًّا لأنَّ كتلة هذه الأجرام كبيرة فيظهر تأثيرها جليًّا، كما هي الحال بالنسبة للجاذبية الأرضية، كما أنَّها تعمل باتجاه واحد فقط؛ فهي قوى جاذبة فقط مقارنة بالقوى المغناطيسية التي تعمل باتجاهين؛ فهي قوى جاذبة وقوى نافرة؛ ولهذا السبب فإنَّ قوى المغناطيس في كثير من الحالات تكون محصلتها صفرًا؛ نظرا لتساوي قوة الجذب وقوة التنافر، ولكن هذا الأمر غير ممكن مع الجاذبية لأنها تعمل في اتجاه واحد. ومن هنا، فإن تأثيرها باق حتى عندما تكون المسافات بين الأجرام السماوية كبيرا جدا والسبب الذي يجعل قوة الجاذبية تعمل في اتجاه واحد وهو الجذب، هو أن قوة الجاذبية تعتمد كما أسلفنا على كتلة الجسم فإذا كانت كتلة الجسم موجبة فإن قوى الجاذبية ستكون قوى جاذبة، ولكن ماذا لو استطعنا أن نكون كتلة سالبة، فهل ستتحول قوى الجاذبية إلى قوى نافرة؟
وهل بإمكاننا حقا أن نكون كتلة* سالبة؟!
والجواب نعم بإمكاننا عمل ذلك؛ فقد استطاع فريق من الباحثين عام 2017 من تخليق جسيمات بكتل سالبة وتحولت القوى الجاذبة إلى قوى نافرة، ويؤدي ذلك إلى سلوك هذه الأجسام التي تحمل كتلا سالبة سلوكا معاكسا لما هو مألوف لدينا؛ فلو قمت بركل كرة مصنعة من كتلة سالبة باتجاه مرمى الخصم، فإنها ستتجه باتجاه مرماك وستسجل هدفا على فريقك، بدلًا من أن تسجله في مرمى الخصم؛ لذا إذا أردت أن تسجل هدفا في مرمى الخصم بكرة مصنوعة من كتلة سالبة فوجِّها باتجاه مرمى فريقك، واركل الكرة بقوة وستأخذ طريقها لمرمى الخصم، ولكن احذر أن لا تصطدم بك وهي في طريقها لمرمى الخصم.
ألم أقل لك انهارت كل البديهيات!!
"عندما تنهار البديهيات.. سلسلة من مقالات علمية تهدف لنشر الثقافة العلمية بلغة مبسطة مفهومة، تثير الخيال البشري، وتجعله يحلق في فضاء رحب، بعيدا عن مشاغل الحياة اليومية وصخبها".
------------------------------------
* للتعرف على مفهوم الكتلة راجع مقال "عندما تنهار البديهيات 3"، والتي تحمل عنوان "عندما تنقلب الكتلة رأسا على عقب"، جريدة "الرؤية"، بتاريخ 10/10/2020م.
المصادر الرئيسية:
1- The Large Hadron Collider, The Extraordinary Story of the Higgs Boson and Other Stuff That Will Blow Your Mind – Don Lincoln
2- Negative-Mass Hydrodynamics in a Spin-Orbit–Coupled Bose-Einstein Condensate, M. A. Khamehchi, Khalid Hossain, M. E. Mossman, Yongping Zhang, Th. Busch, Michael McNeil Forbes, and P. Engels, Phys. Rev. Lett. 118, 155301, 2017
* كلية العلوم - جامعة السلطان قابوس