الإنترنت وسطوة التوجيه

محمد بن خميس بن محمد اليحمدي

لقد وفَّرت شبكات الإنترنت الكثيرَ من الجهد والوقت في حصولنا على المعلومة، وأسهمت كثيرا في التغذية الإخبارية للمستخدمين، إضافة إلى دورها الكبير في تحقيق التواصل بين الأفراد والجماعات في مختلف بقاع الأرض.. فبمجرد نقرة أو نقرتين على الهاتف الذكي أو أجهزة الحاسوب حتى نجد المعلومة التي نبحث عنها أمامنا وقد عرضت بصور متنوعة ووسائل مشوقة.

ومع ذلك الكم الهائل من المعلومات المتدفقة، ورغم الخدمة الآنية المميزة التي تقدمها الإنترنت لمستخدميها، إلا أن هناك ما يدعو للقلق، ويبرر الحذر عند استخدامها، خاصة في مجالات البحث والتصفح وارتياد مواقع التواصل الاجتماعي في مختلف صورها وأشكالها.

ولعل التساؤل الأهم الذي يثير قلق المستخدمين: لماذا تظهر نتائج البحث لدى مستخدمي الإنترنت مختلفة عند بحثهم عن مصطلح ما تتطابق فيه الألفاظ ومدلولها؟

فعلى سبيل المثال: عند البحث عن كلمة "رياضة" قد تظهر نتائج البحث لدى بعض المستخدمين على هيئة روابط تتناول تعريفا للرياضة وأنواعها وفوائدها لصحة الجسم العامة. بينما تظهر عند آخرين متناولة أخبارَ أهم الشخصيات الرياضية التي اعتاد المستخدم متابعتها من خلال محركات البحث أو التفاعل معها ومع متابعيها عبر مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، بل قد تركز على شخصية رياضية بعينها قام المستخدم مؤخرا بالبحث عن معلومات تتعلق بها أو مشاركتها التفاعل عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

إنَّ حجب بعض المعلومات عن المستخدم وإظهارها لآخر لا يتم ضمن عملية عشوائية كما يعتقد البعض؛ وإنما يأتي نتيجة لمراقبة مستمرة تمارسها تقنية الذكاء الاصطناعي لنا، وجمع أكبر قدر من المعلومات عنا؛ حيث إنَّ سلوك النقر السابق وتاريخه والموقع الجغرافي ونوع الجهاز المستخدم... وغيرها من المعلومات التي تعمل على مساعدة الآلة في تكوين صورة افتراضية عنا! وعليه تقوم خوارزميات محركات البحث على تخمين المعلومات التي تسترعي اهتمامنا، وعرضها علينا بغض النظر عن صحتها وسلامة مصدرها وتعمل هذه التقنية في الوقت نفسه على إبعاد جميع ما لا يتفق ووجهة نظرنا؛ ليتم تحييده والاستمرار في إبعاده عن دائرة تفضيلاتنا.

يُذكر إيلي باريسر في كتابه "فقاعة الترشيح ماذا تخفي عنا الإنترنت؟" (يقل تعرض المستخدمين لوجهات نظر متباينة وينعزلون فكريا في فقاعة معلوماتهم الخاصة)، وهُنا يتَّضح لنا جيدا أنَّ المعلومات والتجارب التي نحصل عليها من خلال عملية البحث والتصفح على الإنترنت غالبا ما تكون موجهة ضمن إطار فكري وثقافي محدد قد صممته لنا آلة مجردة العواطف تعمل وفق توصيات معينة؛ حيث يتم عزل المستخدم ضمن فقاعته الثقافية والفكرية وفي الوقت نفسه يتم تغذية أفكاره وتعزيزها وترشيحها ضمن إطارها الضيق.

ومن المُمكن أن يكون ذلك تفسيرا منطقيا لمبالغة بعض المستخدمين في متابعتهم لشخصيات معينة أو مواضيع تبدو غير هادفة والابتعاد عمَّا يظهر أنه ذو أهمية في الوقت الحالي.

وقد يكون لذلك أثره في خروج أجيال لا ترى الحقيقة إلا من الزاوية الضيقة الخاصة بها، ولا تتسم بالمرونة الكافية؛ لتحقق التفاعل المثمر مع ما يدور من حولها؛ فهي منغلقة على نفسها يغلب عليها طابع الرفض في أغلب سلوكها قد فقدت الحس الذي يمكنها إمساك العصا من المنتصف.

إنَّ واقع الأفراد الذين لم يحصلوا على القدر الكافي من التعرض للخبرات المتنوعة المتمثلة في الانفتاح على التجارب المختلفة، والتعرف على المواقف المتباينة هو أشبه بواقع الطفل الذي نشأ على الرعاية الوالدية الزائدة والحماية المفرطة ففقد الحصانة التي تساعده على الثبات في مواقف الحياة المتقلبة، والمرونة المعينة في حل مشكلاتها وافتقاره إلى المهارات الأساسية التي تحقق لها تواصلا اجتماعيا فاعلا.

لكن: لماذا تنهج محركات البحث هذا النهج في حصر المحتوى لمستخدميها وحرمانهم من معلومات قد تكون ذات أهمية لهم في وقت ما؟!

إنَّ السبب الذي تهدف من خلاله مواقع التواصل الاجتماعي لحصر المحتوى لمستخدميها هو هدف ربحي بحت يقوم على الاعتقاد أن الأفراد يميلون إلى مشاركة حاملي نفس التوجه والاهتمام؛ وبالتالي قضاء وقت أطول في التفاعل معهم حول مواضيع مشتركة واهتمامات تنال استحسان جميع الأطراف. إضافة لبيع المعلومات الخاصة بالمستخدمين، وتمكين الشركات التجارية من الوصول إليهم، وهكذا يتم عرض الإعلانات التجارية التي تناسبهم كمستهلكين لهم ذوقهم واهتماماتهم المختلفة؛ فتسهل عملية إقناعهم وضمهم إلى قائمة الزبائن الراغبين في الحصول على ذلك المنتج؛ وليكن ما ذكرناه هو إجابة صريحة يبحث عنها أولئك المستخدمون الذين تثير شكوكهم تلك الإعلانات التسويقية التي تظهر على شاشات هواتفهم الذكية أو حواسيبهم وكأنها تقصد الواحد منهم دون غيره!

إنَّ سطوة التوجيه الذي تمارسه محركات البحث المختلفة تحتم علينا تبصير أجيالنا الناشئة؛ لتكون على قدر من الوعي وإدراك العواقب تجاه ما تخفيه هذه التقنيات عنا. فلقد نادى أصحاب الاختصاص والتربويون بضرورة إكساب الأفراد أكبر قدر من المعرفة وتوفير الوسائط التي تمكنهم من الانفتاح على تجارب الآخرين، وتربيتهم على قبول الاختلاف، والتنوع وأهميته في إثراء الحياة وتحقيق التكامل فيها.. كل ذلك سيساعد على عقد المقارنات الواعية بين المتاح من الموجود، ومن ثم وضع واختبار البدائل التي تفرزها التجارب والممارسات المتنوعة، والوصول بالأفراد إلى اتخاذهم قرارات صائبة تصدر عن شخصية متزنة ومتمتعة بدرجة عالية من الرضا والتوافق النفسي.

تعليق عبر الفيس بوك