كيف ينمو اقتصادنا؟

حاتم الطائي

◄ الاقتراض لدعم ميزانية الدولة يُحقق الكثير من المنافع الاقتصادية والاستثمارية

◄ علينا التخلص من نموذج الاقتصاد الريعي والبدء في تنويع مصادر الدخل

◄ التخصيص والشراكة من الحلول المُثلى لزيادة الإيرادات العامة وترشيد الإنفاق

لا شك أنَّ سُؤال "كيف ينمو اقتصادنا؟" يطرحه الآن المُواطن قبل المسؤول؛ إذ بات معلومًا لدى كل مُواطن مدى تأثره- سلباً أو إيجاباً- بالنمو الاقتصادي، أو على الأقل بالوضع المالي للدولة، إذا ما كانت في وضع يسمح لها بزيادة الإنفاق ورفع الأجور وتوفير الخدمات المدعومة أو المجانية، كما كان يحدث خلال العقود الماضية، أو في المُقابل خفض الإنفاق وثبات الأجور ورفع الدعم عن السلع والخدمات، وهذا الأمر حدث خلال السنوات القليلة الماضية مع تضرر المالية العامة للدولة، وفق المُعادلة البسيطة التي يفهمها كل إنسان، بأن يكون الإنفاق على قدر الدخل الذي تحصل عليه، وإلا في المُقابل ستضطر للاستدانة والدخول في دوامة الديون.

وهذا يدفعنا إلى طرح سؤال آخر بالغ الأهمية: هل يجب أن نقلق عندما تقترض الدولة؟ الإجابة هنا تحتمل جوابين؛ الأول بنعم، والثاني بلا! نعم يجب أن نقلق عندما تقترض الدولة أو الحكومة، وخاصة عندما يكون هذا الاقتراض في ظل ركود اقتصادي عالمي ومخاوف دولية من اتِّساع نطاق هذا الركود واستمرار تأثيره لسنوات مُقبلة. ففي مثل هذه الظروف تقترض الحكومات وفق قيود مُشددة على المالية العامة، فيكون الاقتراض بهدف سد عجز المُوازنة العامة، بينما يبقى على عاتق الحكومات مسؤولية ثقيلة تتمثل في العمل على زيادة الدخل العام، سواءً من خلال فرض ضرائب أو رفع رسوم الخدمات المُقدمة، أو غيرها من الإجراءات الأخرى مثل بيع الأراضي العامة والأصول، وتخصيص الشركات الحكومية أو حصص الدولة في شركات أخرى، علاوة على تخصيص المشروعات، مثل الموانئ والمطارات أو محطات الكهرباء والمياه والصرف الصحي وغيره..

أما الإجابة الثانية بالنفي على سؤال "هل نقلق عندما تقترض الدولة؟"، فتعني أنَّه لا داعي للقلق المُفرط، أو القلق الذي يُورث الخوف من المُستقبل، بل علينا التفاؤل بكل خطوة تخطوها الحكومة نحو إصلاح الوضع الاقتصادي وردم فجوة العجز والتخلص من الأعباء الزائدة، فكل هذه الإجراءات تُبشر بنتائج إيجابية في غضون سنوات قليلة، خاصة وأنَّ الاقتراض لسد عجز المُوازنة ودفع عجلة الإنتاج، يُحقق الكثير من المنافع؛ أولها الحصول على اعتراف مُؤسسات التمويل الدولية بقدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها وسداد ديونها، وثانيها نجاح الدولة في تحقيق مُعدلات نمو اقتصادي بفضل الإدارة الرشيدة للمنظومة الاقتصادية والتَّوسع في مشاريع التنمية دون عائق نقص التمويل. أما ثالث هذه المنافع فيتمثَّل في جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية، فارتفاع عجز الموازنة لا يُمثل عنصر جذب للاستثمار الأجنبي، بل عنصر مُخاطرة، لكن في حالة السيطرة على العجز ومُواصلة خُطط النمو الاقتصادي، يتوافد الاستثمار الأجنبي، للاستفادة من المُقومات الفريدة والنادرة التي تتميز بها بلادنا.

إذن الوصفة العلاجية لأزمة الاقتصاد الحالية- والناتجة عن الضربة المزدوجة لتراجع أسعار النفط والركود المُصاحب لوباء كورونا- تتمثل في نقطتين رئيسيتين؛ الأولى: العمل بأسرع ما يُمكن لسد عجز الموازنة وتحسين المركز المالي للدولة، أما النقطة الثانية فتتمثل في مواصلة الإصلاح الاقتصادي والتخلص من النظام الاقتصادي الريعي القائم على أحادية مصادر الدخل وتفشي ثقافة الاستهلاك دون الإنتاج.

فالنماذج الاقتصادية حول العالم مُتنوعة ومُتغايرة في أساليبها ونتائجها، ويستند اقتصادنا الوطني على ركيزتين رئيسيتين؛ عائدات النفط، والنمو الاقتصادي القائم على الاستهلاك. أما بالنسبة لعائدات النفط، فتشهد تراجعات مُتواصلة منذ انهيارها في 2014، وزاد من حدة التراجع اندلاع حرب أسعار بين كبار المُنتجين، خاصة مع دخول النفط الصخري الأمريكي ساحة التنافس. ولذا لم يعُد الاعتماد على سلعة النفط لتوفير الموارد المالية استراتيجية ناجعة، بل خطرا يُهدد اقتصادات الدول المصدرة للخام الأسود، وظهرت الحاجة الماسة على نحو غير مسبوق للإسراع في برامج التنويع الاقتصادي، والاستفادة من مُختلف الثروات والإمكانيات التي نملكها، بما يضمن تفادي أية تأثيرات سلبية على الاقتصاد مع استمرار انهيار سعر برميل النَّفط.

وخلال العقود الماضية، حققت مسيرة التنمية الاقتصادية في السلطنة قفزات كبيرة، وأحرزت تقدمًا واضحاً فيما يتعلق بالارتقاء بالمستوى المعيشي للمُواطن؛ حيث استفادت الحكومة من عائدات النفط، ونشأ نموذج الاقتصاد القائم على الاستهلاك، وهي مُعادلة اقتصادية تعتمد على زيادة إنفاق المستهلك مع توافر السلع، ومُعظمها مستوردة، فتظل عجلة الاقتصاد في حركة دوران لا تتوقف. غير أنَّ هذه العجلة تباطأت بشدة مع تأثر الإنفاق العام للدولة، فتراجع النمو الاقتصادي، ومن ثمَّ ثبت بالبرهان القاطع عدم استدامة هذا النموذج في ظل وجود مصدر أحادي لإيرادات الدولة؛ وهو النفط!

الآن الظروف مُجتمعة تفرض على الجميع تحمل أقصى درجات الضغط، الحكومة والمواطن والمُستثمر، وباتت الفرصة سانحة لتنفيذ الإصلاحات المرجوة، وعلى رأسها تحرير الاقتصاد من قيود الاعتماد على النفط، وفتح آفاق جديدة أمام الاستثمار، وهنا نشير بوضوح تام إلى القطاع الخاص، إذ إنِّه وحده القادر على إعادة النمو الاقتصادي لمستوياته المرتفعة، على أن يتوقف القطاع الخاص عن الاعتماد على الحكومة في تحقيق كل أرباحه. القطاع الخاص بات مطالباً بالمبادرة لخوض جميع مجالات العمل المتاحة، ولا يجب أن يتحجج البعض بالمخاطرة، فنحن أمام وضع حرج ينبغي على الجميع التكاتف فيه لا البحث عن الأرباح وحسب.

وفي المُقابل يجب أن تُعيد الدولة النظر في عدد من الملفات، وعلى رأسها الشركات الحكومية؛ إذ يجب أن تتخلص الدولة من عقيدة الدور الشمولي للحكومة، من خلال عشرات الشركات الحكومية العاملة في كل مناحي الاقتصاد تقريبًا، من النفط إلى السياحة، ومن الصرف الصحي إلى الأغذية والمشروبات، حتى شركات اللحوم والدواجن.. إلخ. لا ننكر بالقطع الدور الذي أسهمت به- وما تزال- في دعم مسيرة التنمية، لكن آن الأوان أن تُطرح هذه الشركات للتخصيص، وأن تُطبق معايير الحوكمة الرشيدة، وأن يكون العمل فيها وفق الإنتاجية، لا أن تكون متسعًا لاستيعاب الباحثين عن عمل وحسب. لم يعد منطقياً أن تتأسس شركات حكومية جديدة في ظل الظروف الراهنة برؤوس أموال ضخمة، بل الأولى أن تُطرح المشاريع على القطاع الخاص، من خلال صيغ تشاركية عديدة. والتخصيص لا يُسهم فقط في تعزيز قدرة القطاع الخاص على رفع معدلات النمو والاقتصاد، بل أيضاً توفير سيولة للحكومة، هي في حاجة إليها الآن. وأضرب مثالاً بسيطاً هنا بالأندية الشاطئية والمشاريع السياحية المملوكة لمُؤسسات وجهات حكومية في أغلى مناطق العاصمة أو مراكز المدن، ما الذي يمنع من بيعها وتخصيصها لكي يُديرها القطاع الخاص بآلية تُحقق الربح منها، وتعود بالفائدة على اقتصادنا، بدلاً من أن تكون نُزلاً شبه مجانية للعاملين في المُؤسسات التي تُديرها!!

كما يجب إعادة الاعتبار لميناء السلطان قابوس، أقدم ميناء في شبه الجزيرة العربية، وأن يعود لاستقبال السفن التجارية، فمن غير المعقول وغير المقبول "تجميد" هذا الميناء منذ سنوات، بدعوى تحويله إلى ميناء سياحي، ربما يمر شهر كامل ولا تزوره سوى سفن معدودة على أصابع اليد الواحدة، خصوصاً في فصل الصيف.

أيضاً يُمكن للدولة أن تُنعش القطاع العقاري من خلال الاستفادة من بيع الأراضي المُؤجرة للمواطنين بنظام "حق الانتفاع"، وسيسهم ذلك أيضاً في توفير سيولة تقدر بالمليارات، فضلاً عن استفادة المواطن منها باعتبارها ملكاً له.

ويبقى القول.. إنَّ الحلول والبدائل الاقتصادية التي يمكن من خلالها تنمية اقتصادنا، عديدة وقابلة للتنفيذ إذا ما تكاتفنا سويًا لتطبيقها، وأن نتحمل جميعًا ما قد ينتج من ضعوط أو تحديات، ولا شك أنَّ خطة التوازن المالي التي حُظيت بالمباركة السامية من لدن حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم- حفظه الله ورعاه- ستحقق الاستدامة المالية المأمولة، إلى جانب خفض الدين العام، ورفع كفاءة الإنفاق الحكومي، وزيادة الإيرادات غير النفطية، وتعزيز الاحتياطيات المالية للدولة، وغيرها من الأهداف الطموحة، لكن يبقى ما نُؤكد عليه دومًا ألا وهو دعم المواطن لكل قرار وخطوة ترمي إلى الصالح العام.