أزمتان دستوريتان.. إحداهما متفجرة والأخرى "بطيئة الاشتعال"

بوادر "انقسام غائر" في العقيدة السياسية الأمريكية مع تصاعد استقطاب النخب وغياب التوازنات

ترجمة - رنا عبدالحكيم

مُنذ تولِّي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منصبه، وعداء اليسار الأمريكي يتزايد بشكل حاد تجاه الدستورية المحافظة؛ بعدما حطَّمت أفعال ترامب الإيمان بفكرة الضوابط والتوازنات، لاسيما رفضه الكشف عن إقراراته الضريبية، أو حل النزاعات حول أعمال عائلته، وصولًا لرفضه الشامل التعاون مع إشراف الكونجرس، ومن ثمَّ كان الفصل بين السلطات بمثابة رقابة ضئيلة على تصرفات الرئيس.

ونشرت "فاينناشل تايمز" البريطانية تقريرًا، عنوته بـ"هل ستتمزق أمريكا؟ المحكمة العليا وانتخابات 2020 وأزمة دستورية تلوح في الأفق"، ذكرت فيه أنه وبصفته أول فرع من فروع الحكومة الأمريكية، فمن المفترض أن يتمتع الكونجرس بسلطة مساءلة الرئاسة من خلال التحقيقات وجلسات الاستماع والمطالبة بوثائق والمساءلة في نهاية المطاف. إلا أنها استدركت بأنه ومع ذلك، ومن الناحية العملية، لم تعد هذه القوة مجرد رقابة، إذ يبدو أنَّ ترامب ينظر للكابيتول هيل على أنه بعوضة مزعجة، مستندة في ذلك إلى قول أحد كبار موظفي الكونجرس: "يعامل ترامب مذكرات الاستدعاء مثل ورق المرحاض". وأضاف: "لا يوجد شيء تقريبًا يمكننا القيام به حيال ذلك."

ولم تقدم المحكمة العليا -ذات الميول المحافظة- الكثير من المساعدة، وكان جو بايدن الخصم الرئاسي لترامب، المرشح الوحيد تقريبًا خلال المناظرات التمهيدية للحزب الديمقراطي، ليقول إنه لن يُلزم المحكمة من خلال زيادة عدد قضاة المحكمة من تسعة إلى 11 أو 15. وهذا من شأنه تقليص عدد المحافظين إلى أقلية. والآن حتى بايدن، وهو تقليدي من الطراز القديم، يبدو غير ملزم.

وفي الشهر الماضي، توفيت روث بادر جينسبيرج، رمز العدالة الليبرالية في البلاد، بسبب السرطان عن عمر يناهز 87 عامًا. وقد أدى ذلك إلى وجود وظيفة شاغرة، واقترح ترامب على الفور ملؤها بآمي كوني باريت. والتي طغى على ترشيحها الانتخابات الرئاسية فقط؛ فعشية ما تشير الاستطلاعات إلى أنه يمكن أن يكون فوزًا واضحًا لبايدن، فإن تأكيدها من قبل مجلس الشيوخ الجمهوري من شأنه أن يسرق باليد القانونية ما يبدو الناخبون على استعداد لمنحه للديمقراطيين بالسياسة. كما هي الحال، من المرجح أن يتم التعجيل بتأكيد باريت من خلال مجلس الشيوخ في الأسبوع السابق للانتخابات، وهي خطوة مذهلة عندما يكون الليبراليون غاضبين بالفعل بشأن الاتجاه المناهض للديمقراطية في القضاء الأمريكي.

وقد يشعل الجدل الفتيل الذي ينتهي بأزمة شاملة حول العقيدة التأسيسية لأمريكا، وفي هذا السياق، يقول نورمان أورنستين الباحث البارز في السياسة الأمريكية في معهد أمريكان إنتربرايز: "أعتقد أنه من الصعب المبالغة في تقدير مدى صدمة هذه الخطوة". وأضاف: "إن تأكيد باريت سيصعد سباق التسلح النووي القائم بالفعل بين الليبراليين والمحافظين، والذي لا يمكن أن ينتهي في مكان جيد".

وتساءلت "فايننشال تايمز" عن ما الذي يُمكن فعله بعد ذلك لتجنب الانهيار الدستوري للولايات المتحدة؟ مضيفة الجواب المؤلم قليل جدا. ستكون أبسط خطوة هي تعديل الدستور لجعل أمريكا أكثر ديمقراطية. لكن التعديلات تتطلب موافقة ثلاثة أرباع الولايات الأمريكية الخمسين وثلثي كل مجلس من مجلسي الكونجرس، وهو أمر مستحيل في مناخ الاستقطاب السائد اليوم.

ولا تُوجد فرصة تقريبًا للفوز بالتصويت الشعبي في 3 نوفمبر؛ فهو يتخلف عن بايدن كثيرًا. ومن الممكن أن يفوز بالكلية الانتخابية مرة أخرى. وإذا كان يتنافس على النتائج في أي من الولايات المتأرجحة، كما فعل بوش في فلوريدا في عام 2000، فيُمكن للقضاة المحافظين تسوية النتيجة مرة أخرى. وهذا ما حدث في فلوريدا عندما صوتت المحكمة العليا بأغلبية خمسة وأربعة على وقف إعادة الفرز، ومنحت الرئاسة فعليًّا لبوش.

وفي المستقبل القريب، تواجه البلاد شقين متباينين جذريًّا؛ الأول: أزمة دستورية بطيئة الاشتعال، تبدأ بانتصار بايدن. حتى لو هزم ترامب بأغلبية ساحقة، فإنَّ خطط بايدن ستواجه صعوبات قضائية شبه فورية. وواحدة من هذه ستكون محكمة عليا شديدة المحافظة من المرجح في مرحلة ما أن تلغي "التفويض الفردي" الذي يلزم الجميع بشراء التأمين الصحي في ظل نظام "أوباماكير". وفي الواقع، من المقرر أن تستمع المحكمة العليا إلى الطعن المقدم إلى "أوباما كير" في الأسبوع التالي للانتخابات.

كما سيُواجه بايدن مجلس الشيوخ الذي قد يُعرقل تشريعه، كما حدث خلال السنوات الست الأخيرة من أصل ثماني سنوات من رئاسة باراك أوباما. حتى لو استعاد الديمقراطيون السيطرة على مجلس الشيوخ من خلال الفوز بأكثر من 50 مقعدًا الشهر المقبل، فإن بايدن سيظل بحاجة إلى أغلبية ساحقة من 60 مقعدًا لإصدار تشريع جاد.

ويمكن للديمقراطيين أيضًا أن "يحزموا المحكمة"، إما عن طريق توسيع حجم المحكمة العليا وملء الجلباب الجديد بقضاة ليبراليين موثوقين، أو من خلال فرض قيود على فترات عمل القضاة.. وفي الوقت الحالي، يمكن لقضاة المحكمة العليا أن يخدموا مدى الحياة.

أما المعضلة الثانية المحتملة؛ فهي أزمة دستورية متفجرة، فجرتها نتيجة الانتخابات المتنازع عليها الشهر المقبل، ويتضمن أحد هذه السيناريوهات فوز ترامب بالكلية الانتخابية بينما يخسر التصويت الشعبي لبايدن بنسبة 52-47%، لاسيما وأنَّ الانتخابات تجري وسط نسبة مشاركة منخفضة بسبب قمع الناخبين -إغلاق مراكز الاقتراع في مناطق الأقليات الحضرية، على سبيل المثال- ومخاوف "كوفيد 19" تمنع الآخرين من الحضور للتصويت شخصيًّا.

تعليق عبر الفيس بوك