أكثر من 100 عام من العمل الصحفي الدؤوب بين دفتي الكتاب

"رواد الصحافة العمانية".. رصد تأريخي لنضال السالكين درب "مهنة المتاعب"

...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
...

قراءة- مدرين المكتومية

في حُلةٍ قشيبة من القطع الكبير وبصمات إبداعية لا تُخطئها عين، صدر كتاب "رواد الصحافة العُمانية"، للدكتور عبدالله بن خميس الكندي أستاذ الصحافة والنشر الإلكتروني، كلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السُّلطان قابوس، والباحثة والشاعرة شميسة بنت عبدالله النُعمانية.. والكتاب موسوعة تأريخية وتوثيقية لأعلام الصحافة في عُمان على مدى أكثر من قرن كامل من الزمان، بدأت منذ عام 1911م، وما تزال ماضية في مُهمتها الوطنية حتى يومنا هذا.

والكتاب- الذي صيغت فقراته بقلم بحثي رشيق وأسلوب لغوي رفيع المستوى- تحفةٌ أدبيةٌ ومعرفية، يزخر بالعديد من المعلومات والتفاصيل حول نشأة الصحافة العُمانية، وما مرَّت به من تحديات، وما تجاوزته من صعوبات خلال ما يزيد على 100 عام، نصفه قبل انطلاق مسيرة النَّهضة والنصف الآخر خلال تلك الحقبة المشرقة من تاريخ وطننا الغالي.

ويبدأ الكتاب بإهداء لا يتجاوز 33 كلمة، لكنه يختصر عشرات الكتب ومئات المقالات، إهداء عميق المعنى ودقيق الوصف، تنساب كلماته كما ينساب الماء في الأفلاج العُمانية.. "إلى الذين يحملون الضوء في أقلامهم، إلى الذين يفتشون عن القدوات التي تُناصر الحقيقة، إلى الذين يسلكون درب مهنة المتاعب قناعةً وشغفًا، نهديكم نزرًا من سِيَر رواد الصحافة العُمانية ومسارات نضالهم، خريطة للعطاء".

رواد الصحافة العمانية (15).jpeg
 

مقدمة عرفان ووفاء

بينما تحمل مُقدمة الكتاب مزيدا من التفصيل والإسهاب، منها: "أما الصحافة بمفهومها المهني، فهي أكثر تعقيداً من الفعل المجتمعي البسيط، لأنها صورة مُكبرة عنه، ولها قواعدها ومحدداتها، التي بلورتها الممارسة، ولها تاريخها الذي تطور وما زال، ولها وسائلها وثيقة الصلة بالمنتجات المادية المتوافرة بكل زمن، ولها صورها التي تعددت بتعدد الأنظمة والشعوب والمشتغلين فيها، ولها مناخاتها التي تتسع حينا وتضيق أحيانا، ولها هويتها التي صنعت الفرق في شتى جوانب الحياة والمعرفة". ويوضح المؤلفان في المُقدمة أنَّ كتاب "رواد الصحافة العمانية" يشكل صورة أقرب إلى تكون "وثيقة سير إنسانية ومهنية.. لأسماء بذلت جهدها وعبرت بصحفها من الظل إلى الضوء، وصنعت نماذج مشرفة للصحافة العمانية، في الوطن وخارجه، في عصر النَّهضة المعاصرة أو قبله بما يزيد على نصف قرن". وفي نهاية المُقدمة يأمل الكاتبان "أن يكون هذا الكتاب رافدا من روافد المعرفة، وأن يكون رسالة عرفان ووفاء لرجال أفذاذ نذروا أعمارهم للصحافة وحملوا آثار حبرها على أياديهم بكل فخر وانتماء، وأن يسلط الضوء على بصمات ثقافية لها إرثها الحضاري ولها هويتها التي تستحق التوثيق".

إمام الشعر والصحافة

رواد الصحافة العمانية (1).jpeg
 

وينطلق الكتاب في رحلته التأريخية من زمن "إمام الشعر والصحافة" ناصر بن سالم البهلاني الرواحي (أبو مسلم البهلاني)، مُؤسس جريدة النجاح عام 1911؛ حيث تناول الحديث عن سيرته ونشأته وأيضاً تطلعاته وأفكاره، وتوجهاته المختلفة. وبحسب الكتاب، بدأ البهلاني مشروعه الصحفي الرائد بتأسيس جريدة النجاح، وكان يومها متفرغاً لها بعيدًا عن أي وظيفة حكومية، وتشير بعض المصادر إلى أنه "طلب الإعفاء من وظيفة القضاء قبل إصدار صحيفته مُباشرة، ليُعطي بذلك وزناً ومقاماً أكبر للعمل الصحفي في زنجبار خاصة وأنَّ مشروعه جاء في مُقدمة الصحف العربية التي يصدرها العرب العمانيون في زنجبار وشرق إفريقيا".

الصحفي التنويري

رواد الصحافة العمانية (7).jpeg
 

تلا ذلك باب بعنوان "الصحفي التنويري"، في إشارة إلى هاشل بن راشد المسكري أول وأبرز رؤساء تحرير جريدة الفلق (عام 1929م)؛ حيث صدر العدد الأول من جريدة الفلق في 1 أبريل 1929م، وبدأت في الصدور من خلال الحجم النصفي (التابلويد) في أربع صفحات، ثم زيدت إلى ست ثم إلى ثماني صفحات. وبعد أن كانت مقتصرة على الصدور باللغة العربية، "تنبه القائمون عليها إلى ضرورة صدورها باللغة الإنجليزية، لئلا يكون عامل اللغة حاجزا دون وصولها إلى غير العرب من بعض الأفارقة والإنجليز والهنود".

الصحفي الحقوقي

رواد الصحافة العمانية (5).jpeg
 

وتحت عنوان "الصحفي الحقوقي"، يتطرق الكتاب إلى أحمد بن سيف الخروصي مُؤسس جريدة المُرشد (عام 1942م؛ حيث أصدر الخروصي العدد الأول من جريدة "مونجوزي" أي المرشد يوم الجمعة 6 فبراير 1942م بالتعاون مع علي بن مُحسن البرواني، وقد اختارا (الخروصي والبرواني) لها أن تصدر باللغة السواحلية "لأجل أن تصل إلى جميع الذين يتحدثون اللغة السواحلية"، وقد اتبعت الجريدة أسلوباً مختلفا وهو ترجمة أبرز محتوياتها إلى اللغة الإنجليزية، وفي 23 أكتوبر 1959م أضافت الجريدة مواد صحفية باللغة العربية تحت عنوان "المرشد".

الصحفي الاقتصادي

ومع استمرار الكتاب في التأريخ الزمني لمسيرة الصحافة العُمانية، يرصد الباب التالي الذي يحمل عنوان "الصحفي الاقتصادي"، سيرة الصحفي مُحمد بن ناصر اللمكي أحد أبرز رؤساء تحرير جريدة الفلق التي صدرت عام 1945م. وورث الشيخ محمد بن ناصر اللمكي حب العمل الصحفي من أبيه، ثم ورثه بعد ذلك لأحد أبنائه، وهو أحمد بن محمد اللمكي. وتشرب محمد اللمكي مهنة الصحافة ومتاعبها، فوالده هو ناصر بن سليمان اللمكي الملقب بـ"شيخ الصحافة"، ومن أهم بداياته في هذا المجال مُتابعة إصدار جريدة النجاح بعد أبي مسلم البهلاني، ثمَّ الاشتراك في تأسيس جريدة الفلق عام 1929م. أما عمَّه حارث بن سليمان اللمكي فقد أصدر جريدة محدودة الانتشار عن الحزب الوطني أسماها "النادي"، وكانت هذه الجريدة تُطبع بآلة الرونيو، وتصدر في مُحيط ضيق، وكانت توزع مجاناً على بعض الأشخاص. وورّث الشيخ محمد بن ناصر اللمكي مهنة العمل الصحفي لابنه أحمد بن محمد بن ناصر اللمكي الذي تولى إدارة تحرير الفلق بين عامي 1953 و1954م، إضافة إلى الكتابة في صحيفتي النهضة والمرشد.

الصحفي ورجل الدولة

رواد الصحافة العمانية (12).jpeg
 

بعد ذلك، يتناول الكتاب في أحد أبوابه "الصحفي ورجل الدولة"، وهو السيد سيف بن حمود آل سعيد مُؤسس جريدة النهضة (1957م)، وجريدة النهضة صدرت كجريدة "عربية حرة جامعة مُستقلة" لمؤسسها ورئيس تحريرها صاحب السُّمو السيد سيف بن حمود آل سعيد. وكانت تصف نفسها بأنَّها جريدة أسبوعية مُؤقتة شعارها "الله غايتنا- الرسول زعيمنا- والقرآن دستورنا- الله أكبر"، وتصدر العدد الأوَّل من النهضة صورة سلطان زنجبار- آنذاك- السُّلطان خليفة بن حارب تحت عنوان "سلطاننا المحبوب". وأرسى رئيس تحرير جريدة النهضة ومحررها السيد سيف، قواعد العمل الصحفي في صحيفته، مؤكداً أنَّ "مهنة الصحافة من أسمى وأشرف المهن الحرة وسنبذل أنفسنا بكل سرور وسنضحي بجهودنا ووقتنا في سبيل المُثل العليا وإرجاع الحق إلى نصابه معتصمين بحبل الله المتين وسنكون صادقين في أداء رسالتنا وسنبذل الجهد المستطاع بتوفيق من الله".

الصحفي الأديب

رواد الصحافة العمانية (10).jpeg
رواد الصحافة العمانية (9).jpeg
رواد الصحافة العمانية (8).jpeg
 

وبعنوان "الصحفي الأديب"، يُفرد الكتاب باباً كاملاً وموسعاً لرصد سيرة الأديب والشاعر والوزير عبدالله بن مُحمد الطائي، أحد أبرز رواد الإعلام في الخليج العربي (1957م). ويذكر الكتاب أنَّه "ينطبق على عبدالله بن محمد الطائي لقب أديب الصحافة. وبلغة العصر كان الصحفي المتخصص في الشأن الثقافي والأدبي؛ حيث تفيض مقالاته وأحاديثه الإذاعية أدبًا وثقافة على مستوى الموضوع واللغة، لدرجة أنك عندما تقرأ أحاديثه الإذاعية التي بثها في إذاعتي البحرين والكويت في خمسينيات القرن العشرين وستينياته، تتساءل: هل هذه أحاديث إذاعة عامة؟ أم أحاديث نخبوية في إذاعة عامة؟ أم أن مستوى العامة كان بهذا الوعي الثقافي والفكري الذي قدمه الطائي في أحاديثه الإذاعية في تلك الفترة؟".

ويتناول الكتاب في أحد أبوابه كذلك "رائد صحافة نهضة السبعين" نصر بن مُحمد الطائي مُؤسس صحيفة الوطن (1971م). ويعد نصر بن محمد الطائي رائد الصحافة العمانية المُعاصرة التي بدأت عهدا جديدا من تاريخها بعد انطلاق عهد النَّهضة العمانية المعاصرة بتولي جلالة السُّلطان قابوس بن سعيد الحكم في السلطنة بتاريخ 23 يوليو 1970م؛ حيث أسس هذا الرائد أوَّل صحيفة عُمانية عربية يومية في السلطنة، وهي صحيفة الوطن في 28 يناير 1971م، مطلقاً بذلك بداية الصحافة العُمانية المُعاصرة.

الطائر الحر

الرؤية حاتم الطائي (2).jpeg
 

ويُقدم الكتاب في الباب الذي يحمل عنوان "الطائر الحر" تفصيلاً ثرياً عن المُكرَّم حاتم بن حمد الطائي مُؤسس صحيفة الرؤية (2009م)، فيقول: "قرر الطائي إصدار جريدة نتيجة لاعتقاده بأمرين: أولهما أنَّ تأثير المجلات في فترة التسعينيات ضعف وخبا، وثانيهما أنَّ البلد بحاجة إلى جريدة بدماء جديدة لامتعاض العُمانيين من الصحف العمانية في تلك الفترة من التسعينيات بسبب نمطيتها وتقليد بعضها بعضا".

الرؤية حاتم الطائي (1).jpeg
 

ويضيف المؤلفان: "قبيل الشروع في مشروع الجريدة حدثت الأزمة المالية العالمية، فأحسَّ برعب كبير واستشار عددا من معارفه وأشاروا عليه بعدم البدء في المشروع فأحُبط وانتظر إلى حين وثق بعدم تأثر عُمان بالأزمة مُباشرة، وبعد ستة أشهر أحيا من جديد فكرة المشروع؛ فبدأ بجمع الأفكار واختيار الأشخاص". ويمضي الكتاب في رصد مسيرة الطائي الصحفية، معرجًا على أبرز مقالات الطائي، ومنها مقال "نحروه أم انتحر"، وافتتاحية الصحيفة بعنوان "كمن يدس السم في العسل"، الذي ردَّ فيه على التحقيق الذي نشرته صحيفة واشنطن بوست الأمريكية، ومقال عن مسندم بعنوان "قطار التنمية لم يصل إلى مسندم"؛ وهي المقالة التي أثرت على مستوى القرار السياسي، إضافة إلى سلسلة مقالات "بيانات الإصلاح" التي استمرت لخمسة أسابيع لمناقشة الحراك العماني وحركة الإصلاح.

يشار إلى أنَّ غلاف هذا الإصدار الموسوعي يتميز بلون فني متطور وحداثي، من خلال تحويل الصور إلى بورتريهات وكأنها مرسومة بريشة فنان، علاوة على الإبداع في اختيار مُتقن لنوع الخط الذي كُتب به عنوان الكتاب، كي يعيش القارئ في أجواء تاريخية مفعمة بالحيوية في الوقت ذاته. أما صورة الغلاف فهي صورة بانورامية تخيلية، جمعت رواد الصحافة العمانية في "لقطة جماعية"، وكأنَّ المؤلفان يريدان القول إن هؤلاء الرواد وإن رحل مُعظمهم عن عالمنا فهم يشكلون فريقًا وطنيًا واحدًا، كل عضو فيه كرَّس جهده وسخَّر قلمه لأجل نهضة وطننا ورفعته، وحتى تظل حرية الكلمة مكفولة، وقوة الرأي وعمقه مؤثرة في حياة النَّاس.

تعليق عبر الفيس بوك