بين مكتب المدير وطاولة الموظف (2)

ناجي بن جمعة البلوشي

حدَّدنا في مقالنا السابق ثلاث نقاط بحث أساسية تؤدي بنا إلى معرفة وجود التصرفات التي يقوم بها الموظفون الحكوميون في مكاتبهم إن كانوا مديرين، وفي طاولاتهم إن كانوا موظفين، تلك التصرفات التي في ظاهرها توحي بمعنى تهميش المُراجع وتقليل قدره ومكانته، بعد أن يترك مترددا في قاعات المبنى الحكومي دون أي أسلوب حضانة وكسب ود من أجل تخليص وإنهاء ما وفد إليه.

مثل هذا التصرف أوجد فيهم على إثر تكراره والتعود عليه سلوكاً وعادات وطُرق تعامل مُخزية لمكانتهم في ذلك الصرح الحكومي المملوك للجميع لتؤدي في طبيعتها إلى ما يُمكن لنا أن نسميه اصطناع الترهلات الإدارية وابتكار الإتكاليات العملية وخلق أسلوب الكيدية لإلحاق الأذى النفسي بالمُراجعين ومن جانب آخر عدم التفكير في أي جديد خارج عن نطاق هذا الصندوق الذي هم فيه وبه قد يكونون منهجا مغايرا جديدا سمحا راقيا يُؤدي إلى تقليل هذه التصرفات واحتوائها والنهوض والرقي بالعمل الحكومي الإداري والمالي لما فيه خير للبلاد والعباد إلا أنهم كانوا دون ذلك التفكير بل هم بعيدون عنه ويزدادون بعدًا عنه في كل يوم يمر عليهم وهم في أروقة تلك المكاتب والطاولات فينقلونه كخبرات من خبراتهم البغيضة إلى كل من هو جديد في تلك الوحدة من الموظفين.

وإذا كان حال المُراجعين المحكوم عليهم من قبل أولئك الموظفين بالمراجعين المترددين إلى دوائر المقرات الحكومية بين مكتب ودائرة ومختص دون أي جدوى وفائدة من تكرار ترددهم لإنهاء مُعاملاتهم وحاجاتهم فإنَّ هذا الحال أمسى من بين الروتين اليومي لمهام وظيفة ذلك الموظف كما أنه نهج من مناهج عمل مجدول على جدول الأعمال لأولئك الموظفين المديرين.

إنَّ هذه التصرفات في أصلها هي تراكمات قديمة تراكمت تراكمًا زمانياً في نفوس أولئك الموظفين لهذا إذا أردنا أن نقيسها زمنياً فإنها تقاس في كل دولة مفردة على زمن نهضتها أو مدى تكون مقرات الحكومات ودوائرها الحكومية فيها فالعراق أكثر من السلطنة زمناً بالتكوين والنهضة ولبنان أكثر من قطر عمراً بالتكوين والنهضة... إلخ من أمثال، غير أن هذا الزمان صنع لنفسه مسارًا في تزاحم أفكار وحيل أولئك الموظفين، مما أدى بتلك الأفكار للتزاحم فيما بينها ومنها بدء الضيق في مساراتها وما سارت إليه من تنفيذ لتتفرع بعدها إلى أفرع وبعدها إلى التشعب. فوصفها إن أردنا أن نشبهها بما نعيشه فهي أشبه أو شبيهة بالطرقات والشوارع أو مجاري المياه ومصباتها، إذا ما تزاحمت تفرعت وإذا ضاقت عليها تلك الأفرع، تشعبت إلى شُعب كثيرة.

لذا فإنها تختلف باختلاف المجرى الذي هي فيه والمتوافق مع الزمن والحياة المجتمعية فما كان بالأمس ناجحاً لا يعمل به اليوم لأنه مؤكد فاشل، لذا إن كانت بالأمس نوعية الأفكار التي تشغل كل الموظفين مُنصبة في كيفية خلق أعذار وصعوبات وعوائق اللاقبول للمعاملات من أجل التردد فإنها اليوم مختلفة لتكون أفكارا جديدة تعنى بكيفية طلب المال والرشى وحاجيات أخرى لتخليص تلك المعاملات، ثم بدأت تتطور حالها كحال أي مادة متطورة حسية كانت أو ملموسة مجاراة لما تقوم به الحكومات فهي تطور منظومات المراقبة والرقابة والقوانين والعقوبات كذلك هم الموظفون أنفسهم يطورون أفكارهم لتتجاوز كل الأفكار الواردة في تلك الرقابة والقوانين والعقوبات.

هكذا تكونت حياة داخلية عملية في كل موظف راغب في هذا الطريق فهو سريع التفكير والبديهة يعلمها وينثرها على كل موظف جديد أو على موظفي قسم بأكمله أو دائرة أو مديرية. في المقابل كان المراجع يسير في نفس النهج من التطور لأجل سبيل التغلب على كل متطلبات ذلك الموظف وحيله ورغباته وهو في واقعه استسلاما منه وإيمانا بأن طريق التخليص يكون على هذا النحو، لذا فإنَّ أكثر المراجعين استسلاماً لرغبات ذلك الموظف هم أنجحهم تخليصًا لما يريدون من حاجيات ومُعاملات في أي وزارة معنية وربما يمكننا أن نقول عنه إنه يكون ذا شأن في هذا الاستسلام وقد أصبح مشهورًا ينساق إليه كثيرا من المراجعين في كثير من الأحيان للاستشارة والحصول على الفائدة المرجوة من طرق التهاون والاستسلام وأجددها بل وأفضل الطرق المُلتوية المسلوكة في كل وحدة ودائرة على حدة فإذا قيل له الإسكان ردَّ بالرشوة وإذا قيل له البلدية ردَّ بالشراكة. وبمثل هذه الأمثال اندمجت الأساليب وبها ضاعت الحقوق في المحاكم وأهملت الشكاوى لدى أقسام الشرطة وتعسرت المُعاملات في الوزارات الخدمية الحكومية وانتهت كل مفاهيم التنافس الحر في المُناقصات والمُشتريات وغيرالتي كان يجب أن تكون نزيهة ونزيهة ثم نزيهة.