رؤية تربوية

مصطفى عبد المولى السيد *

 

لاشك أننا نعيش جميعاً فترة استثنائية على كافة الأطراف، خاصة فيما يتعلق بالمنظومة التعليمية والحقل التربوي. دعونا  نُفكِّر في  الطرف الثاني وهو بالمناسبة يعدُّ المحور الأول أيضاً في العملية التعليمية، وأعني به (الطالب)، إذ حريٌّ بنا- نحن المربين- أن  نشعر به ونسشعر مدى معاناته الآن، فنحن جميعاً في بحرٍ لا شاطئ له؛  بحر  من  التكنولوجيا  والترتيبات والتغييرات التي شملت جوانب العملية التعليمية من حيث الطرق والوسائل والتقييم والتقويم والآليات والتواصل والمحتويات التعليمية ...إلخ.

أليس من الحق والإنصاف أن نهتم بالطالب أيما اهتمام؟ كل شيءٍ تغير في حياته ومطلوبٌ منه ما بين عشية وضحاها أن يكون جاهزاً ومُستعداً ومُلتزماً ومُرتباً، وذا عقلٍ متوقدٍ، وبصيرةٍ فذة، ومتفوقاً أكاديمياً، ليس في مادة واحدة بل في عشرِ موادٍ تقريبا!. 

نعم هذا مطلوب ولكن لن يتحقق إلا بأدواتٍ تجذبه وتشوِّقه للدرس، وللمعلم ولن يتحقق ذلك إلا إذا آمن المربي بأهمية ما يفعله. لن يتحقق إلا إذا تغير المربي وتجدد تفكيره. لن يتحقق إلا إذا تدرب المعلم ذاتياً وسأل وحاول وأخفق وتعثر وقام واستعاد ثقته وتعلَّم كل ما هو جديد واطَّلع على الاستراتيجيات الحديثة في التعامل والمناهج والتواصل والتقنيات الحديثة التي لا مناص منها مطلقاً شئنا أم أبينا وإن لم يحدث ذلك فكأننا نحرث في بحر وكأننا ربطنا حبلاً في يد الطالب ورميناه في البحر وقلنا له عليك بالعوم والسباحة وإياك أن تغرق!.

دعونا نُبسِّط بلا تهميش، ونُشجِّع الطلاب بلا تعصُّب، ونخفِّف الأعباء عنهم، ونحبِّبهم في التَّعلم، ونتفهم اتجاهاتهم النفسية فهذه مهمتنا الأساسية نحن المعلمين، إذ لا يهمنا الكم ولكن يهمُّنا الكيف والمهارات التي يتحصَّل عليها الطالب.

ليست المعجزة أن يكون المعلم مخزناً للمعلومات والثقافات ولكن المعجزة هي توظيف تلك المعلومات، ومعرفة كيف ومتى وأين تستخدم.

المعجزة أن تكون مزوِّدا بالمهارات والأدوات المتجددة التي تناسب مقتضيات ومتطلبات العصر لا بالنمطية والخبرة المتكررة التي لا حركة فيها ولا جديد.

المعجزة أن تجتمع الخبرة مع الأساليب الحديثة، وتوظيفها لخدمة الطالب، والبعد عن النمطية والاستعداد النفسي والعقلي لكل جديد وطارئ وكيفية التعامل معه.

ليست المعجزة أن نعطي كمَّاً كبيراً، ونقدِّمُ معلومات كثيرة، وعميقة بقدر ما يهمنا إعطاء الطالب أداةً للبحث والوصول والمراجعة الحثيثة والتكرار لكل شيءٍ، إن لزم الأمر، فالوعي لا يأتي دفعةً واحدةً إنما يأتي بالتكرار والتجارب وتعلُّم  المهارات. قِسْ نفسك أيها المربي الفاضل على هذا المبدأ فأنت المربي الكبير العاقل الذي وصلت لأعلى الدرجات العليا من الدراسة والخبرة، فضلاً عمَّا يقدم لك من الدعم الفني والعلمي والإرشادي سواء من لجان الوزارة أو الإشراف التربوي لكي يرسموا لك الطريق والمنهجية التي تنظم هذا العمل الضخم المسمى (بالعام الدراسي) بكل أدواته ومشكلاته وتحدياته وآلياته المختلفة.

وبرغم ذلك فالبعض يشتكي ويتعثر ويتعذر من هذا التغيير المفاجئ فما بالك بهذا الطالب وهذا الطفل الذي يطلب منه أن يكون مثالياً في كل شيء؛ في الحضور والانصراف والفهم والاستيعاب والدرس والواجبات والتكليفات والتعامل الاحترافي تكنولوجيا وإلكترونيا وملماً بكل جديد وقديم ومنفذا للأوامر والتعليمات مطيعاً لكل كلمة صادرة من البيت أو المدرسة أو الأقران!

اجعل  نفسك موجها ومرشدا، لا مُلقناً كن مربيا مؤمنا بأنَّ ما تقدمه وما تزرعه بالتأكيد ستحصده لا موظفا تنتظر توقيع الانصراف قبل توقيع الحضور وتذكروا أننا لسنا في الجامعات لكننا أبناء مدارس وطلاب  مدارس وميداننا هو المدارس نبني ونُؤسس العقل والفكر والمهارات الأساسية.

والمدارس ليست في حاجة لأستاذ جامعي يُلقن وينظِّر ويسكب معلومات محفوظة، فأروقة المدارس وفلسفاتها ورؤيتها تختلف جذرياً عن أروقة ومهارات وفلسفات ومخرجات الجامعات بقدر احتياجها لمعلم ومربٍ مُلمٍ بمهارات مهنة التدريس المدرسي يضع الطالب على الدرب ثم يسانده ليمشي وينطلق، يعلمه الغزل – بتسكين الزال– ثم يعطيه مخيطاً لينسج ويفنن ويبدع بنفسه، يعلمه الصيد لا ليصطاد له يكسبه المهارات قبل المعلومات فقديماً قال الجاحظ ذلك الفيلسوف العالم أو إن شئت فقل العالم الفيلسوف قال: "إن المعاني مطروحة في قارعةِ الطريق يعلمها العربي والأعجمي والبدوي والقروي" يستخدم كل ماهو متاح علميا وخلقيا واجتماعيا لتوصيل المعلومة التي تظل محفورة في عقل المتعلم لا تتبخر بمجرد انتهاء الدرس أو الحصة أو حتى الاختبارات وهذه هي المعادلة الصعبة.

  والضمير المهني يقتضي الصراحة فكثير من الطلاب تضرروا بسبب الفاقد التعليمي الذي حدث منذ شهر مارس الماضي ومنهم من يفتقد الأساسيات والأدوات المهمة لمهارات المادة فلنكن عونا لهم بالتبسيط لا التعقيد بالتشويق لا بالتلقين بالوسائل المساندة لا بالأمر والنهي بالإضافة لا بالإفاضة بتمثل ومعايشة الموقف التعليمي لا بالتنظير وكثرة الكلام، بالتكرار وتغيير الأساليب والإجراءات والطرق التعليمية لا بالجمود والأسلوب الواحد الذي يُمارسه المعلم  طوال حياته.

أناشدكم راجياً إخواني المعلمين: إنَّ مهمتنا الأولى هي التربية والإصلاح والتقويم والتعديل وإكساب المهارات وتوصيل المعلومة بطريقة  شيِّقة  سهلة وخلق عقل قادر على صنع المنهجية العلمية مزود بالتفكير المنظم لا العشوائي ونحن جميعاً في قارب واحد لابد أن نعلم بعضنا البعض التجديف حتى نرسو في شاطئ الأمان.

وأذكركم بأننا مؤتمنون على هؤلاء الطلاب ومسؤولون عنهم وأنتم لا شك أهل لهذه الأمانة. هذه رسالتي بصفة عامة وهي جديرة بالتنفيذ في أي وقت خاصة  في هذه الأيام الصعبة والتحديات المقبلة.

* رئيس قسم اللغة العربية بمدرسة أحمد بن ماجد الخاصة

تعليق عبر الفيس بوك