في حلول الذكرى الثالثة لوفاة صديقي الأحب

 

عبدالله الفارسي

 

تواصل معي زميل وقارئ متسائلا: لماذا اختفت سطورك فيما يخص واقع الوطن؟ فقلت له: كم أشتهي الكتابة عن كل ما يخص الوطن ولكني مُحبط من الواقع درجة الانطفاء والوهن!!

لذلك اسمحوا لي أن أحدثكم عن الصداقة، فالصداقة هي أيضاً وطن عميق، الصداقة التي تنغرس في الصدور كشجرة سدر عظيمة تعجز أعتى الأمطار عن جرفها، وتنحني أعتى العواصف عند جذورها.

بالله عليكم أخبروني في أيِّ عام نحن!! هذه الأيام المتكبرة الثقيلة المغرورة تسير بسرعة فتكنس معها أرواحنا وذاكرتنا وبقايا أحلامنا. أعتقد أنَّه في هذا اليوم تحل الذكرى الثالثة لوفاة أعزَّ صديق لي في هذه الحياة "نوفل عبد الكريم طويسات" إن لم تخنِ الذاكرة كما خانتني الحياة!!

نعم قد يستغرب البعض وقد يندهش البعض الآخر لكنني فعلاً أعترف بأنَّ أعزَّ صديق عرفته في حياتي كان أردنياً ولم يكن عُمانياً وقد رحل من هذه الدنيا سريعاً، الأشياء الجميلة ترحل سريعاً، فالجمال لا يعيش طويلاً في الأرض هكذا أخبرني أحد الحكماء.

نوفل صديق أردني الجنسية عشنا معاً أربع سنوات كاملة (1994- 1998)، نادرا ما افترقنا فيها عن بعضنا إلا للضرورة القصوى، كان إنسانا مميزا جدا عن بقية الجاليات العربية التي تعاملت معها له كبرياء لا يتوافر مع الكثيرين منِّا ويملك أنفة متينة لا يُمكن تخطيها أو تجاوزها أو كسرها. صاحب روح مرحة طاهرة نقية لا يُمكن وصفها. عاش معنا أربع سنوات بالضبط وقدَّم استقالته كان بإمكانه أن يجلس عشرين عاماً كغيره من الأردنيين والسودانيين من مُعلمي اللغة الإنجليزية والذين مازالوا موجودين منذ العام 95 حتى اللحظة، ولكن كما أسلفت كبرياؤه العتيد لم يسمح له بطلب تأشيرة تجديد أخرى، رفض رفضاً باتاً البقاء يوما واحداً آخر، حاولت إقناعه بالبقاء والتجديد فوقف أمامي قائلاً: "أنا جئت لأجمع مبلغ زواجي واشتري سيارة وأرحل ولم أترك وطني لأكدس المال وأعبده". كان نوفل كريماً سخياً وبشكل عجيب لم أره من قبل في حياتي ولا أذكر يوماً ما أنني دفعت له شيئًا من جيبي، كان حين ندخل مطعماً يوهمني بأنَّه سيذهب إلى دورة المياه ولكنه كان يراوغ ليصل إلى المُحاسب ويدفع له حساب طعامنا مقدماً، كان دائماً يسبقني في هذا السلوك ونادرا ما كنت أوقفه أو أتمكن من منعه.

كان يكره المال ويحتقره بشكل غريب يُبعثر الأوراق النقدية هنا وهناك ولا يحمل محفظة أبدًا، وحين أدخل غرفته أرى الريالات من جميع الفئات مبعثرة في كل أجزاء الغرفة. وأحاول أن أجمعها وأرتبها له وأضعها فوق طاولته ولكن دون جدوى أعود في اليوم التالي وأرها مبعثرة كما كانت. كان إذا خرج انحنى وتناول ورقة أو ورقتين منها وترك الأوراق كما هي، وكأنها مناديل قمامة، كان لا يقفل غرفته أبداً ولم أره يقفلها أو حتى يحمل مفتاحاً في جيبه.

وحين أطلب منه أن يقفل غرفته كان يضحك ويقول: دعها مفتوحة لربما يأتي أحدهم ويجد فيها ضالته!!

كان دائماً يُردد أمامي هذا المال الحقير هو الذي أفسد البشر.

سافر صديقي نوفل عبدالكريم طويسات تاركاً لي فراغاً كبيرًا لا يحتمل وسوادا كئيبا لا يُطاق، رحل كغيمة مثقلة بالمطر ولم تهطل، رحل كقارب شراعي عانق الريح وحضنته الشمس.

حين تعتاد مرافقة إنسان روحه تعانق روحك وقلبك ينبض مع قلبه تصاب بصدمة الانفصال ولوعة الانقطاع ووخزة الفراق. كنت كمريض يتنفس من أنبوبة أكسجين وذات فجأة فصلوا عنه الجهاز وقطعت عنه خطوط الحياة وتركوه يحتضر، هذا ما حدث معي بالضبط مارست الاحتضار شهورا طويلة بعد سفر صديقي الأحب حتى أقبلت أول أجازة صيفية قطعت تذكرتي وطرت إلى الأردن، وعانقت صديقي وتنفست الحياة بجانبه.

لم أعش تجربة صداقة بهذه القوة وبهذا الصدق وبذلك الجمال إلا معه كانت معه سيارة قديمة صغيرة بسيطة كبساطة نفسه ولكنها جميلة كجمال روحه، كنَّا نتجول بها في شوارع إربد وعمان والطفيلة وجرش والمفرق وعجلون والبتراء والزرقاء، فكانت بعد كل ساعة تتوقف فجأة فننزل ونغطس في صندوق محركها ونعبث بمصارينها حتى تشتغل من جديد وننطلق بعدها ضاحكين.

كنت في كل صيف أخصص له نصف إجازتي، أزوره في الأردن وتحديدا في قرية الشيخ حسين في أغوار الأردن، كنَّا نقف في سطح منزلهم المحاذي للحدود الإسرائيلية ويُؤشر بسبابته ويقول: انظر يا عبدالله تلك إسرائيل اللعينة لقد سرقت أفضل بلاد الدنيا وأجملها.

كنت أقضي معه كل صيف شهرا ويزيد نتبعثر في الأردن كلها من مدينة إربد شمالا حتى مدينة العقبة جنوبا، أجلس مع أهله وإخوته البسطاء الطيبين الرائعين بضعة أيام في منطقة الأغوار ثم ننطلق بعدها إلى سوريا ومن سوريا إلى لبنان نقضي أسبوعا هنا وأسبوعا هناك نتسكع كمراهقين أحمقين. ثم نعود سعداء طلقاء كتلميذين قادمين من رحلة كشفية.

حين وصلني خبر وفاته لم أبكِ في ذات اللحظة لأنني لم أعِ لحظتئذ خبر فقدان صديق بهذا الحجم، ولم أتمكن من استيعاب موت رفيق بهذه الوزن ولم أقتنع بموت رجل بتلك القوة والصلابة والروعة.

لكن بعد يومين امتصصت الحقيقة واستيقظت من نومي ومخدتي ملأى بالدموع، وقالت لي زوجتي: طوال الليل وأنت تبكي في نومك، انفجرت بعدها في البكاء كطفل فقد لعبته الحميمة التي تساوي الحياة.

انفجرت في الصياح كطفلة فقدت أمها الحبيبة وتيقنت بأنها لن تحصل على مثلها أبدًا. بكيت بنفس المستوى الذي بكيته على أمي وسكبت كمية من الدموع بنفس مقدار الدموع التي سكبتها لحظة احتضار أمي وموتها في يدي.

ورغم أنني مؤمن إيمانا عميقا بالموت وكنت متوقعا أن يموت صديقي لأنَّ حالته الصحية في سنته الأخيرة كانت سيئة وتسوء يوما بعد يوم، كان مدخناً شرهاً ومدمنا للقهوة بطريقة لا يمكن وصفها، وأصيب في أواخر حياته بالسكر. ونظراً لعناده الشديد كان لا ينتظم في علاجه ولا يتوخى الحذر ولا يكترث بتفاقم المرض ولم يعترض على زحف المرض واحتلاله لكل جهازه الهضمي.

قلت له مرة: ستموت يا نوفل ارحم نفسك، فضحك ضحكته الجميلة التي لم يغيرها المرض ولم يلوثها الزمن.

قال: "العراق فقدت ملايين من خيرة أبنائها وسوريا تدفن كل يوم أروع رجالاتها ونسائها، فماذا هناك لو مات نوفل، ماذا يعني موت نوفل مع أربعة ملايين إنسان زهقت أرواحهم عبثاً خلال خمس سنوات يا صديقي!!".

وكان يتألم من ألم العراق وينزف مع نزيف سوريا، كان يتكئ على الأريكة ويرتشف قهوته وينفث سحابة من دخانه. ويغوص في ملكوت أفكاره التي تغزوه في كل لحظة فيحجم عن الكلام ويضرب عن الثرثرة ويمارس صلاة صمت خاشعة قد تصل إلى ساعات لا تسمع منه سوى خشخشة أنفاسه الصاخبة ولا ترى سوى عينين تحدقان في شيء بعيد لا يمكن أن تعرفه أو تسبر غوره أو تكتشف كنهه!!

هذا الرجل الذي عرفته كما أعرف نفسي وأكثر لا يمكن أن يسبح عقله إلا في فكرة عظيمة، أو يغوص في لحظة خالدة. نوفل لم يكن كاملاً كان ناقصا ككل البشر لكنه لم يكن منافقاً كان صادقا واضحا ساطعا كصفحة سماء في صبيحة يوم صافٍ.

حين تفقد أعز صديق يقرع السؤال المزعج قلبك ويطعن كل أحشائك: كيف سأواصل الحياة بعد أن فقدت ركناً من أركان الحياة!

من البديهي أن أواصل الطريق لكن لن يكون القلب كما كان سابقاً إنني أواصل الطريق اليوم منكسرا متخلخلا متهشماً. فليس من السهولة بمكان ترميم الروح حين يقتطع جزء حميم منها وليس بالإمكان إيجاد صديق عظيم بحجم نوفل!

رحمك الله أيها الصديق الحبيب، وأرجو من الله أن يجمعني بك بأسرع وقت مُمكن، فوالله إنَّ الحياة بدونك لا طعم ولا نكهة ولا رائحة لها.