المشرع الخليجي وتشريعات المرأة والأسرة (2)

أسرة تَعِسة.. مجتمع تَعِس!

د. عبدالحميد الأنصاري *

ذكرتُ سابقاً أنَّ المشرِّع الخليجي لم يستطع مُواكبة التغيرات الاجتماعية في المجتمع الخليجي فيما يتعلق بحقوق المواطنة الخليجية، لم يستوعب هذه التغيرات، وظلَّ مُصِراً على التعامل مع المواطنة بعقلية ماضوية تستبطن أعلوية الذكر على الأنثى!

انعكستْ هذه العقلية الماضوية بالسلب على قوانين الأسرة وحقوق الطفل، وأدَّت لسلسلة من العذابات اليومية التي تُعانيها المرأة المطلَّقة والمعلقة والمهجورة والمعنفة والحاضنة في ردهات المحاكم من أجل المطالبة بحقوقها وحقوق أطفالها، ومن أجل حمايتها من العنف الأُسَري. ولكي الله تعالى أيها المخلوق البديع، كم تُعانين وتتعرضين من يوم مجيئكي إلى هذه الدنيا لصنوف من الإكراهات الأسرية والمجتمعية؛ فقط لأنكِ أنثى في مجتمع يهيمن عليه الذكر!

وإذْ لا نكران لجهود حكوماتنا في تقنين تشريعات للأسرة والطفل بعد طول ممانعة، وفِي إنشاء مؤسسات لحماية المرأة والطفل من العنف، ولا بخس لجهود الجمعيات النسائية والمنظمات الحقوقية في المطالبة بتأمين حماية للمرأة المعنفة من الإكراهات الواقعة عليها، دعماً للاستقرار الأُسَري، إلا أنَّ هذه التشريعات بحاجة لإعادة نظر. هُناك مواد قانونية أصبحت غير مُلائِمة لواقع التحولات الاجتماعية، وهناك ثَغَرات قانونية تستغل للإضرار بالمرأة، وهناك ضرورة مُلحَّة لمعالجة أنظمة الإجراءات المعوقة لسرعة تحقيق العدالة، وهناك تخلف قضائي تقني معيب. إنَّ إشكالية هذه التشريعات تكمُن في أن حركة المجتمع الخليجي والعالم مُتسارعة، بينما التشريعات والإجراءات المطبقة تعجزان عن مواكبتها.

إنَّ المشرِّع الخليجي اليوم مُطَالب بإلحاح بإعادة النظر في التشريع الأُسَري وحقوق الطفل والإجراءات المطبقة، وفق رؤية معاصرة تأخذ في الاعتبار 7 معايير ينبغي أن تكون حاكمة؛ هي:

1- نصوص الدساتير الخليجية وروحها في تأكيد حقوقاً متساوية بين المواطنين والمواطنات.

2- المواثيق والتشريعات الحقوقية الأممية التي أقرَّت المساواة بين الجنسين.

3- روح العصر ومُعطيات الحضارة النافعة في تبني النظام الرقمي وطرق الإثبات الحديثة.

4- مقاصد الشريعة العُليا في دعم التماسك الأُسَري باعتباره المحضن التربوي الأساسي لتنشئة جيل سوي .

5- تحولات المجتمع الخليجي: السياسية، والاجتماعية، والثقافية.

6- أعراف وتقاليد المجتمع الخليجي الصالحة.

7- أن تكون لمصلحة الطفل الأولوية العليا.

وانطلاقاً من هذه المحددات السبعة، فإنَّ أبرز ملاحظاتي هي:

أولاً: الولاية على المرأة

مُلاحظتي الرئيسية على التشريع الأُسَري الخليجي أنه جميعاً يتبنى فلسفة مشتركة تقوم على مبدأ تعزيز وإعلاء "ولاية الرجل على المرأة"؛ فالمشرِّع الخليجي يؤمن بفرض وصاية الرجل على المرأة دائماً: أباً أو زوجاً أو أخاً، فقط لكونه رجلاً !

وفي تصوُّري أن هذه الفلسفة بحاجة للمراجعة؛ لأنها مخالفة للقرآن (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض)، ومُنَاقِضة للمواثيق الحقوقية والدساتير الخليجية، كما يأباها منطق العصر، ومنطق أجيالنا الجديدة، ولا يتلاءم وواقع التغيرالاجتماعي المتسارع الذي يشهده المجتمع الخليجي؛ فالولاية إنما تفرض على قاصر أو مجنون، قيداً على تصرفاته وعدم إجازته إلا بإذن الولي، مبرره الحرص على حماية حقوقهما، إلا أن فرضها على البالغة العاقلة الرشيدة نوع من التمييز لا مسوغ له. وإنَّما زُين للمشرع عمله أمران؛ الأول: موروث ماضوي ينتقص الكفاءة العقلية للمرأة ويشكك في صحة تصرفاتها. والثاني: سوء فهم للمقصود بـ"القوامة" الثابتة قرآنيًّا، القوامة تعني مسؤولية الرجل عن أسرته وبيته من حيث الرعاية والحماية وتأمين الاحتياجات المختلفة، ولا تعني الوصاية والتحكم.

وإذا كانت المرأة الخليجية لا تزال تعاني أشكالاً من القيود على تصرفاتها، مثل: عدم مباشرتها عقد زواجها، أو منع سفرها إلا بموافقة الولي وصحبة محرم، فمردها أن المشرع الخليجي ما زال أسيرَ عادات وأعراف اجتماعية بأكثر من الثوابت القرآنية التي أقرت للمرأة مباشرة عقد نكاحها "أن ينكحن أزواجهن" طبقاً للإمام الأعظم. أما سفر المرأة وكافة تصرفاتها المدنية والمالية، فلا نجد نصًّا قرآنيًّا أو نبويًّا صحيحًا يمنعها.

وللمقال بقية...،

 

* كاتب قطري