نهضة الفنون ورؤية عمان 2040

 

 

◄ الفنون العُمانية جسور التقاء وتواصل حضاري بين الأجيال والعالم لنشر السلام والوئام وفق المشترك الإنساني الواحد

◄ الإرادة السياسية السامية للسلطان خالد الذكر آمنت بضرورة بناء مسار تنموي قوامه الإبداع والحفاظ على الموروث للتمهيد لصحوة ثقافية معاصرة

◄ "النهج القابوسي" أسس لفكر ثقافي وفني متجذر ومنفتح على العالم يبني إنسانًا يعتز بهُويته ويشيد عمرانا قوامه الابتكار

◄ "عُمان 2040" خارطة طريق لصون المكتسبات والمحافظة على الهُوية والتراث العماني

الفنون تشكل ارتباطا وثيقا بالأرض وإيقاعا للحياة العمانية الأصيلة الفخورة بماضيها

◄ دار الأوبرا السلطانية منارة للمعرفة والاحتفاء بالفنون العالمية والتراث الإنساني المشترك

 

 

د. ناصر بن حمد الطائي

د. ناصر الطائي.jpg
 

مُنذ بزُوغ فجر النهضة العُمانية، أولت القيادة الحكيمة لجلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور -طيَّب الله ثراه- أهميَّة خاصة للفنون، وتجلَّت هذه الرعاية الكريمة في العديد من الإنجازات التي تُوِّجت بافتتاح عالمي مُبهِر لدار الأوبرا السُّلطانية مسقط في أكتوبر من العام 2011، لتكون منارةً للإبداع والتألق والاحتفاء بالفنون الإنسانية النبيلة دعما لأواصر المحبَّة والسلام بين الشعوب. ‏

وتحت ظلِّ القيادة الحكيمة لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- تولدت نهضة متجددة، مستندة إلى ركائز رؤية وطنية طموحة هي "رؤية عُمان 2040"، والتي تعزِّز جهود صون التراث العُماني التليد، وترسِّخ لهُويَّة مُنفتحة على ثقافات الشعوب استمرارا لنهج الانفتاح الملتزم، وتعزيزاً لدور الفنون في إثراء الثقافة الدبلوماسية التي تحتفي بالموروث والنتاج الإنساني المشترك.

الفنون.. رسالة نبيلة

ويحفظ التاريخ للعُمانيين إدراكهم العميق للرسالة النبيلة للفنون والثقافة في بناء الإنسان منذ قديم الزمان، فكانوا من أوائل الشعوب التي أبدعت فنونا، وأنتجت ثقافات نالت إعجاب العالم؛ ويشهد بذلك فن العازي والرزحة والهبوت والبرعة والعيالة والمالد... وغيرها، كفنون أصيلة، أبدعوها على مر العصور، ونقلوها للأجيال اللاحقة لتبرهن على تنوع وثراء حضارتنا الضاربة بجذورها في أعماق الماضي العريق.

فالفنون العُمانية عمومًا هي انعكاسٌ لثقافتها العربية والآسيوية والإسلامية.. إنَّها احتفالية إلى حدٍّ كبير؛ حيث يتمُّ دمج الموسيقى في النظام القبلي القديم ليؤديها جميع أفراد المجتمع في مناسبات محددة. وترتبط الفنون العُمانية كذلك بالحركة المشتقة من وظيفة الطقوس التي تؤدى فيها مثل: الزراعة، والرعي، والصيد، والسفر...إلخ؛ وبالتالي تشكل الفنون ارتباطا وثيقا بالأرض وإيقاعا للحياة العمانية الأصيلة الفخورة بماضيها.

وتتشكل الموسيقى العُمانية معتمدةً على جُغرافية بلادنا المتنوعة؛ فعلى سبيل المثال: ترتبط موسيقى الخط الساحلي إلى حدٍّ كبير بالصيد والغوص والتجارة؛ وبالتالي فهي تختلف عن موسيقى الصحراء حيث يسافر البدو على الرمال الشاسعة تحت التضاريس البيئية القاسية، وكذلك فإن موسيقى المناطق الداخلية تتشكل من خلال طقوس تركز على الزراعة والحصاد وأغاني الفخر والحماسة، وهي بذلك تختلف عن تلك التقاليد المرتبطة بالأشخاص الذين يعيشون في الجبال في عزلة بعيدة عن المصادر الطبيعية لصناعة الآلات الموسيقية.

تأثير وتأثر

وقد تأثرت فنوننا الموسيقية بالموسيقى الآسيوية والشرق إفريقية بسبب ماضي عُمان في الملاحة والتجارة. وعلى وجه التحديد، تأثرت بالفنون الآسيوية من جواذر والإفريقية في زنجبار والساحل الشرقي لإفريقيا.. ولهذه الأسباب، تمَّ توظيف بعض الآلات الموسيقية من هاتين المنطقتين في الفنون العُمانية.

وتمتاز الموسيقى العُمانية بأنها إيقاعية، وترتبط بغناء الأصوات البشرية، لأنَّ تفوق الصوت البشري هو جزء من الموسيقى العربية، وبسبب هذا التأكيد لم تتطوَّر الآلات الموسيقية في عُمان عدا آلات الإيقاع. وتُستخدم الآلات الموسيقية مثل الربابة والناي والعود لمرافقة الصوت في بعض الفنون ولكن حضورها حديث مقارنة بالآلات الإيقاعية.

نهضة الفنون العُمانية

شكَّلت أشعة شمس الثالث والعشرين من يوليو نهضة حضارية على جبين أرجاء الوطن، قادها وأسَّس لها سلطان أثر في تكوينه النفسي -رحمه الله تعالى- اعتزاز عميق بإرث وتراث ثقافي وفني لأجداد شامخين. وزينت نظرته الحكيمة فترة من العمر قضاها في بريطانيا جعلت منه سلطانًا مشبعًا ومحباً للثقافة والفنون، فأمر ووجه، وتفضل وأسدى بتوفير الرعاية والاهتمام لمسيرة الفنون والثقافة في السلطنة لمد جسور تواصل حضاري بين الأجيال من جهة، وبين عُمان والعالم من جهات أخرى عديدة.

وتلازمتْ رُؤى السلطان المؤسس قابوس بن سعيد بن تيمور -طيَّب الله ثراه- لتنمية ونماء عُمان العصرية بتشييد الصروح الثقافية والفنية، وترسيخ دعائم وأسس مستنيرة يقوم عليها بنيان الدولة الحديثة، دولة تودِّع الانعزال والانغلاق والظلام، وترتمي في أحضان الشمس والمعرفة، مُحَافظة على إرثها وناقلة له للأرض كافة، ومجددة من فكرها لتبني وطنا له خصوصية الطابع العُماني المنفتح على الآخرين. أعلى السلطان الخالد في سبيل ذلك من شأن الفنون والثقافة منذ بواكير عهد النهضة، مؤكدًا الإرادة السياسية الواضحة لتأسيس مسار تنموي قوامه الإبداع، يضمن صون الموروث، ويمهد نحو صحوة ثقافية تتماشى مع النهضة المعمارية الشاملة قوامها الإنسان العماني، ركيزة التنمية.

وبهذا، أسس النهج القابوسي لفكر ثقافي وفني متجذر، منفتح على العالم إيمانا من لدنه -طيَّب الله ثراه- بأنَّ الفنون فكر وثقافة ونمط لنهضة تسير على خطى السلام والتسامح والإلفة مع الخارج، تبني إنسانا معتزًا بهويته وساميا بفكره وحسه، إنسان هو أداة التنمية وهدفها الأساس، شيَّد عمران النماء بحس وفكر قائم على الابتكار والإبداع.

رعاية سامية للفنون

العرض العسكري.jpg
 

وفي هذا السياق، كان توجيهه -رحمه الله- بإنشاء الفرق الموسيقية العسكرية في بداية السبعينيات، تلتها الفرقة السلطانية الأولى للموسيقى والفنون الشعبية بمسقط، والفرقة الثانية للموسيقى والفنون الشعبية بصلالة، والتي كانت لها ولا تزال مشاركاتها الفنية الثمينة في داخل أرض الوطن وخارج حدوده، مُوْصِلَة الإبداع العُماني للعالم ومؤصلة لتراث فني غني. وهي الرسالة ذاتها، التي انطلقَ منها مركز عُمان للموسيقى التقليدية في العام 1984؛ إذ جاء مُترجِمًا لواقع موسيقي وطني تشكل متأثرًا بفكر سلطان حكيم، فلم يقتصر اهتمام المركز على الموسيقى التقليدية العُمانية فحسب، بل أخذت الموسيقى العربية مكانة خاصة من إصدارات المركز وفعالياته.

الأوركسترا السيمفونية السلطانية العُمانية

 

الأوركسترا.jpg
وكما سبق، فإنَّه وإدراكًا من السلطان الخالد للدور السامي للفنون، فقد أسدى -رحمه الله- توجيهاته بإنشاء الأوركسترا السيمفونية السلطانية العُمانية في العام 1985، مؤكدًا الحاجة للموازنة بين الثقافات وبين الحداثة والتراث، ولقد باشر -رحمه الله- بنفسه وبأفكاره النيرة مهمة وضع الأسس المناسبة لدراسة أفضل السبل لإنجازها، وظلت تحت إشراف مباشر من لدنه حتى أضحت سفيرة عمان في المحافل الدولية. تم اختيار مجموعة من الموسيقيين الشباب الموهوبين بناءً على مهاراتهم الموسيقية في مجالات الألحان والإيقاع والأنغام، وحصل المرشحون المنتقون جميعًا على دراسات مكثفة في الموسيقى برعاية الحرس السلطاني العُماني.

الجمعية العُمانية لهواة العود

ومُواصلةً لاهتمام السلطان الخالد بالموروث الفني والموسيقي، فقد وجَّه في العام 2005، بإنشاء جمعية متخصصة لهواة العود؛ حرصًا على رعاية المواهب الفنية لعازفي العود في السلطنة، وإبرازها، وصقل مواهبها لدعم الحركة الفنية في السلطنة بشكل عام، والعزف على العود بشكل خاص. ومنذ إشهار الجمعية وحتى اليوم، وهي تقدم لمنتسبيها العديد من البرامج التي تسهم في تطوير مستواهم الفني، وتقدم لهم كذلك مساحة أمام الجمهور لإبراز مواهبهم الفنية من خلال المشاركة في مختلف البرامج والمحافل في السلطنة، إضافة لإسهامها الفعال في إثراء مجالات الفكر والثقافة والعلوم والبحث والتواصل الحضاري والثقافي، محليا وعالميا، عبر إتاحتها الفرصة أمام منتسبيها للالتقاء بمختلف العازفين العالميين من خلال ورش عمل متخصصة.

دار الأوبرا السلطانية مسقط

خلال افتتاح دار الأوبرا.jpg
 

"لقد قامت عُمان عبر تاريخها الطويل بأدوار مشهودة في مختلف الميادين الثقافية والحضارية، وقد آن الآوان لتتويج المسيرة الحضارية الحافلة بالأخذ بمفاهيم الثقافة العالمية، والمساهمة الفعّالة في تنميتها.. وتجسيداً لهذا، فقد أنشأنا دار الأوبرا السلطانية مسقط؛ لتكون مركز إشعاعٍ ثقافي للشعب العماني والإنسانية جمعاء".. بهذه الكلمات المضيئة للسلطان قابوس خالد الذكر، دشَّنت دار الأوبرا السلطانية مسقط أعمالَهَا في العام 2011، كمؤسسة رائدة في مجال الفن والثقافة في السلطنة، برؤية تستهدف أن تكون مركزاً للتميز في التواصل الحضاري والثقافي ومجالات الفنون الراقية مع مختلف دول العالم؛ لإثراء الحياة ببرامج فنية وثقافية وتعليمية.

فالأعمال المتنوعة التي تقدمها الدار على مدى سنواتها الماضية، تعرض غنى وتنوع الإبداعات الفنية من عمان والمنطقة والعالم، موفِّرة مساحة كبيرة للثقافة والتنمية الاجتماعية والاقتصادية وانعكاساتها، كما تلهم جمهورها وتغذي إبداعاتهم من خلال البرامج المبتكرة التي تعزّز الحيوية الثقافية، وتُطلق العنان للمواهب. فضلا عن أنها تعزز السياحة الثقافية، وتؤكد دور الفن كوسيط دبلوماسي من خلال بث روح التقارب بين مختلف شعوب العالم تعزيزا لأطر الإخاء والسلام بين الشعوب.

دار الفنون الموسيقية

وبداخل المعمار المهيب لدار الأوبرا السلطانية، تقف دار الفنون الموسيقية بشموخ ينطق بحجم الرعاية السامية للفنون بالسلطنة، ومؤكدًا سمو رؤية السلطان للفنون، ودورها في تنشئة الأجيال على قواعد الرقي والجمال والتواصل الحضاري. فهي تمثل إضافة جوهرية لدار الأوبرا السلطانية، تستفيد من الدور الحضاري الذي تأسست من أجله الدار، بفضل ما تم تقديمه من عروض أوبرالية وفنية وموسيقية حظيت باهتمام العالم، وأثرت المعارف الفنية والموسيقية للجمهور في السلطنة، كما استقطبت سياحا من خارج البلاد، ليشاهدوا عظمة هذا الصرح وبراعة الأداء المقدم على خشبة مسرح الأوبرا بمواصفاته التقنية العالية.

الفنون العُمانية و"رؤية 2040"

وبعد فجر حزين، ترجَّل فيه السلطان قابوس بن سعيد بن يتمور -رحمه الله- كانت شمس الحادي عشر من يناير 2020، مُؤرِّخة للحظة تاريخية في سجلات مسيرة هذا الوطن، فاختيار من كان وزيراً للتراث والثقافة فى عُمان سلطاناً لها، هو اختيار يحمل العديد من الدلالات الرائعة لمستقبل الفنون والثقافة بالبلاد، بناءً على ما تم إنجازه عمليًّا خلال فترة ترؤس مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -أبقاه الله- حقيبة التراث والثقافة، وما تلا توليه زمام الحكم بالبلاد -أيده الله- من إنشاء وزارة خاصة بالثقافة والرياضة والشباب، كدليل عملي على عمق الرؤية السديدة لجلالته تجاه الثقافة والفنون والرياضة كمشتركات إنسانية نبيلة، يتعين إيلاؤها الرعاية الكاملة، والتمسك بها، والحافظ عليها كي نضمن حياة مستقرة، قوامها التسامح والمحبة والإخاء والتعاون.

ونحن نتطلع خلف قيادتنا الحكيمة التي هندست أولويات وأهداف رؤيتها المستقبلية "عُمان 2040"، إلى مستقبل مأمول، من الضروري أن تلعب فيه الفنون دورا أساسيا على الساحة الثقافية لتحقيق ركيزة "المحافظة على الهُوية العُمانية والتراث العُماني" باستيعابٍ مُتطلبات الأولوية الوطنية "المواطنة والهوية والتراث والثقافة الوطنية"، لإسهام الوطني في بناء الإنسان الواعي المثقف والمنفتح، القادر على تشييد أساسات مجتمع المعرفة، وتحقيق الترابط والاندماج بين مستويات التنمية المختلفة.

إنَّها نهضة الفنون العمانية في أسمى وأروع أشكالها؛ حيث تتضافر الجهود تحت مظلة واحدة؛ هي حب الوطن والانفتاح على عالم الإبداع والرقي الإنساني من أوسع أبوابه، يُشكل فيها صون التراث الحضاري والتاريخي لبلادنا، والسمات المميزة للشخصية العُمانية المتطلعة دومًا للمعرفة، والمحبة للانفتاح والحوار المتحضر بين الثقافات والشعوب معالم الإنسان العماني المعتز بهويته وإرثه الوطني وتراثه العريق؛ بما يضمن معادلة التوازن بين الموروث والتوجهات الفنية المعاصرة، نحو استدامة تنموية.. ونهضة وطنية متجددة.

تعليق عبر الفيس بوك