مهن مهدَّدة بالزوال

سلطان بن سليمان العبري

Sultan12444@gmail.com

عمل الإنسان بالزراعة وكان ذلك منطقيًّا ومبرراً ليسد جوع يومه، ثم كان عليه أن يصبح جزَّاراً يتفنن في تقطيع الحيوانات التي يصيدها، والغالب أن مهارة الطهو التي تعلمها بالصدفة أضافت طعماً جديداً إلى ما يأكله، وأما تتبيله وتبهيره فمُؤكد أنها عمليات متأخرة قد أخذت عشرات الآلاف من السنين، واحتاجت إلى ترحال ومزج كثير من البهارات مع بعضها البعض، هذا بعد أن عرف الإنسان أنها ذات فائدة مع ضرورة وحتمية ومدى تأثيرها على الطعام.

وبعد الأكل بشقيه النباتي والحيواني، كان من المهم مزاولة مهن جديدة؛ أهمها: البناء الذي يُمكنه من وقاية نفسه من شر الحر والبرد، ومن الحيوانات الضالة والمفترسة، فنشأت مُترادفات مهنية كثيرة مثل الحدادة والنجارة وتوابعهم.

وكلما كبرت وتعددت احتياجات الإنسان وتغيرت وتطورت الآلات، انبثقت مهن جديدة في الحياة، على أن مهنة البناء كانت الأكبر والأضخم بدليل "عجائب الدنيا السبع" القديمة والتي كانت مقتصرة على حدائق ومبان مختلفة تُظهِر مدى التفوق البشري في الهندسة، وما يحتاجه الإنسان من علوم أخرى كالكيمياء والفيزياء والرياضيات، بدليل بناء الأهرامات من طين وحرارة، كما نشرت جريدة التايمز الأمريكية عام 2006م خبراً علمياً يؤكد أن الفراعنة استخدموا الطين لبناء الأهرامات!

وكذا الأمر بالنسبة لسور الصين العظيم وجنة عدن ومنارة الإسكندرية.... وغيرها.

لكن كل هذا الجهد الإنساني يغلب أن يتلاشى بسيطرة الآلة والتقنيات الحديثة على ما يبذله، حيث يحاول رجال الأعمال ومالكو المصانع الكبرى الاعتماد على التقنيات أكثر من الناس، وهذا مهد للبطالة وساعد انتشارها حول العالم، ويمكن القول إن إثر التطوّر التقني الذي أحدثته التكنولوجيا الجديدة والمبتكرة، سيؤدي إلى خسارة الكثيرين لوظائفهم خلال السنوات القليلة المقبلة، مع بروز مهن جديدة تتطلب مهارات تقنية عالية.

فلنأخذ مثلا المهن المتعلقة بطباعة وتوزيع الجرائد والمجلات، حيث أحدث التطوّر التقني، وثورة الإنترنت صدمة كبيرة للعاملين فيها، فمع انخفاض مبيعات الجرائد الورقية عاماً بعد عام، وجد الكثير من الصحافيين أنفسهم بلا عمل، إضافة إلى القضاء على المهن التي تتعلّق بالطباعة والإخراج الصحافي.

من جانبها، مجلة "فوربس" أعدّت لائحة لـ20 مهنة أو حرفة بدأت بالتلاشي، منها عمّال البريد وفرزه وتوصيله واللوجستيات المرتبطة بالنقل، حيث أصبحت عملية الفرز عملية أوتوماتيكية من خلال مسح الشيفرة الخيطية (الباركود) على الطرد، وتشمل اللائحة أيضا موظفي مراكز الاتصال، الذين حلّت برامج الكمبيوتر محلّهم في تحويل الاتصالات وتوجيهها إلى العميل المطلوب.

ومن الأعمال المتلاشية مع مرور السنين، عمل مشغلي الآلات المكتبية والخياطة في معامل الألبسة وتشغيل أنظمة ضخ النفط، وحتى عمل طهاة الوجبات السريعة!

كل هذه المهن باتت الأنظمة التكنولوجية والروبوتية المبرمجة قادرة على أن تحلّ محلها، بكلفة أقلّ وفاعلية أكبر في الولايات المتحدّة مثلا، ووضع مكتب إحصائيات العمل قائمة من المهن التي بدأت أعداد العاملين فيها بالانخفاض، تصدّرتها مهنة مراقبي حركة القطارات، التي مصيرها الزوال مع تطوّر أنظمة الاستشعار الإلكترونية.

الأكثر غرابة كان الاعتماد على الإنسان الآلي "الروبوت" الذي حسن كثيراً من التقنيات الزراعية والهندسية لكنه طرد بالمقابل آلاف العاملين بهذين الحقلين، وهناك دراسات في ألمانيا على إسناد أدوار أكبر للروبوت الآلي في الطب ليقيس الضغط والسكر، ويتعرف على كثير من الأمراض ويعطي حلولاً لها، وإذا ما علمنا أن هناك اتجاها لتعليم الروبوتات الآلية قوانين ودساتير خاصة بكل دولة، وإن حدث ذلك فأهم مهنتين في أمريكا "الطب والمحاماة" معرضتان للخنق التدريجي على يد الإنسان الآلي، ناهيك عن تدخل التقنيات الحديثة في عمليات البيع والشراء والأكل والشرب، خصوصاً بمرحلة ما بعد كورونا، مما يعني أن آلاف المهن ستندثر أيضا، مما يعني أن البشرية ستلفظ أنفاسها الأخيرة.

تعليق عبر الفيس بوك