الرحلة.. لعلي الحبسي

 

 

المعتصم البوسعيدي

 

من "العينينِ" تجلَّت رؤيته وتسامت تطلُعاته واشرأبت طُموحاته.. من "سيارةٍ زرقاء" تُمطر الماء لتمنع ــ مؤقتاً ــ تناثر الغبار، "وسيارة حمراء" تطفئ لهب الانفجار.. من غبشِ اللهوِ والتَّحدي.. من "النجوم" المتلألئة.. من "العنابي" مهد الميلاد الأوَّل وسُكنى الحنين الدائم.. من "النَّصر" المُعتق برائحةِ اللبان الحوجري، وكأسٌ غالية لا يُباريها كأسٌ في دلالاتِها الوطنية المُضمخة بروحِ الولاء والانتماء.. من كُلِ ذلِكَ تسارعت خطواته وهو مُمسكٌ حقيبته، وتذكرة سفر على متنِ طائرة الغربة والمجهول في رحلةِ التغيير ورسم المسار.

كبُرَ مع كُرات الثلج إذ تدحرجت من أسطورةِ "الملك نور"، آلمته التباريح الباردة، لكنها عبرت به فيافي المسافات الطويلة، فصيرَ من صلدِ الحجر صلصالاً "لَين" صنعَ به قِطار الأمل بالعملِ والتفاني والإخلاص، حتى باتَ على قمةِ "غالدهوبيغن"، كما تربع على عرش الحراسة الخليجية، فتلاقفته الأبصار وتجاذبته تيارات نهر "كارول" فكانَ نساج "الفلمنك" الذي لم تغيره جيرة "الشياطين الحُمر" وسط هالة الأضواء المُترفة.

لقد ربِحَ البيع في خضمِ ضغوطات الاحتراف، فنالَ من كُلِ ريح مغنمه، وإذ كان "نصب ويجان لين" شاهداً على صولاتٍ وجولاتٍ من حقبِ التاريخ، فقد كان قفازه شاهداً على تألقٍ لافت وأفضلية قادتهُ نحو تحقيق أحد أعرق الكؤوس العالمية إن لم يكن أعرقها على الإطلاق، في هذهِ الأجواء ذهب شهراً ليُسعف فقدَ "رويال بافيليون" ثم ظهرَ قائداً عربياً بثوبِ الفارس النبيل في عاصمةِ مُقاطعة "باركشير" الملكية، قبل أن يُعلن رحلة العودة للأراضي العربية بعد أعوام طِوال عاشها أسداً في عرينِ الأسود؛ فعادَ عبرَ نسائم البقاع الطاهرة في جنَّةِ الدنيا المُنورة على هضبةِ نجد ورياض حجرِ اليمامة، لم ينتظر اكتمال القمر؛ فمع بزوغ "الهلال" اقترن اسمه بالزعامة، فكانَ ما كان من تجلٍ وضياء، ثم يممَ شطر أوروبا ليكتب الفصل النهائي لا الأخير!!؛ حيثُ غردَ طائر "سمنة" على شجرةِ "الشحرورة" ثم نام هانئ القلب مُطمئناً تحرسهُ شفاه الشُكر وأكُف الدعوات.

أما في رحلةِ الوطن؛ فتلك السنين العِجاف ولت عندَ مضاربه، غوثٌ في أعوامٍ سِمان خفقَ فيها السيفين والخنجر وحلَّقَ بالفرحِ والسعادةِ والشموخ، فهُنا تخطى بقميصِ المُنتخب نادي المئوية، وكان طوال تسعةَ عشرَ عاماً مثالاً يُحتذى ونجماً يُرتجى وأثراً يُقتفى، ولا شرف يعلو شرف "وسام أعزَّ الرجال وأنقاهم" على الصدور المُخلِصة، ولا لقب أكبر من "الأمين" المُؤتمن على بياضِ السلامِ واحمرارِ المعارك واخضرارِ الرُبى في البقاعِ المُزهرة.

تلك رحلة علي الحبسي في السطورِ المُتقاصرة، رحلةُ الأخلاق قبل كُرةً منفوخةً عاجزة، رحلةُ رضا الله وبالوالدين إحسانا، وتضحيات العائلة ووحدتهم لمصيرِ الأجيال المُتلاحقة، رحلةٌ عُمانيةٌ خالصةٌ من جذورِ أسطورة السِندباد وابن ماجد وتيبو تيب وأحمد بن النعمان ويوسف بن علوي إذ يُردد: السلام.. السلام.. السلام، رحلةٌ شاهدةٌ على حباتِ عرقٍ دافقةٍ بالأحاسيسِ والمشاعرِ المتناقضة، وبها يجب أن نُدرك ــ تمام الإدراك ــ أنها ضريبة الرحلات الخالدة؛ فلا يطلبُ العُلا قعيد أرض حارقة. وللرحلة بقية.