إلى متى العالم الثالث؟ ومتى يكتمل النمو؟

 

 

إسماعيل بن شهاب البلوشي

الكثيرُ منا، وفي جوانبه الشخصية أو العامة، يظل مُقيَّداً بفكرٍ مُعيَّن دون معرفة السبب؛ فأولاً من أعطى جزءًا من العالم أن دُوله نامية أو عالم ثالث؟ ولماذا صدَّق سكان ذلك الجزء أنهم كذلك؟ وإلى متى؟ وهل أنَّ لهذه التسميات سببًا في تأخر هذه الدول عن التطور الحقيقي وفي كل شيء؟! ثانيًا: وإذا كانت هذه حقائق مرحليَّة للدول، فمتى مثلا أوروبا أو أمريكا كانتا عالمًا ثانيًا أو ثالثًا، أو كانت دولًا نامية؟ ومتى خرجت من تلك المراحل؟ ومن الذي قرَّر خروجها؟

النموُّ مرحلة في عمر الشجرة مثلاً، والحبو مرحلة في نمو الطفل كمثال آخر، ولكن كلا المرحلتين تنتهي بعد حين، ويكون الطفل رجلاً، وتكون الغرسة شجرة، ومع ذلك فهل العالم النامي يعرف حقيقة نفسه؟! وهل العالم المتقدم مُحقٌّ في التسمية؟! والأهم من كل ذلك: هل العقول البشرية في مرحلة نمو وفي فكر مختلف عن المتقدمين، أم أنَّ القياس هو ذلك الحجم من البناء والمُعطيات المادية الأخرى؟ وإذا استطعنا تحديد الأمر، فهل التعاطي معه سيكون أسهل على الأقل؟!

أمَّا عن البنايات الشاهقة والطرق والجسور والسيارات ودور العبادة، فهي كثيرة ومتنوعة وجميلة، ولدى العالم المذكور ما يُباهي به أكبر دول العالم، وهذا دليل كبير على التقدم الواضح في هذا المجال، إذن أين تكمُن التسمية التي يُؤمن بها الكثير؟ ولو أنها لم تعد دارجة في وسائل الإعلام بحجم ما هي راسخة في العقول!!

ومن وجهة نظري، أعتقد أنَّ الأسباب كثيرة، غير أنَّني سوف أتناول في هذه العُجالة اثنين فقط؛ فأول الأسباب والتي أراها الأهم: "الفكر المفرد"، والذي لا يعتقد أنه سائد ومسيطر؛ فهو بحاجة للتركيز في هذا الأمر المهم، وعلى الرغم من أن منفعة الفكر المفرد والمصلحة الشخصية هي أكبر مضاد وطارد ومدمر للمصلحة الشخصية نفسها، إلا أنَّ الأمر ترسخ بشكل سلوكي خطير، وأصبح سمة المجتمع؛ فلو نزلنا بأصغر مثال في هذا الجانب؛ فهل يصدق الكثيرون أنَّ استخدام إشارة المركبة هي أكبر مقياس على تربُّع الفكر الشخصي، وهو يعد من أهم وأدق المقاييس لأي مجتمع وفي أي دولة من دول العالم؟ فمثلاً لو كنت تنتظر للانعطاف من طريق وتتوقف لأنَّ هناك مركبة قادمة من بعيد خوفاً من أن تصطدم بها، وفجأة وعندما تصل إليك تلك المركبة تنعطف وفي نفس اللحظة يستخدم قائدها إشارة الانعطاف؛ بحيث لا يُمكنك أن تنعطف قبله، في حين أنه لو أعطى الإشارة مسبقاً لخرجت أنت من الطريق دون أن تُؤخره مُطلقاً. وعلى الرغم من تناهي صغر المثال، لكن سيتضح لكل مستوى من القراء أننا لو قلبنا الأمر وتبادلنا الأدوار، أن نفس الشخص موجود في كلا الموقفين فهو اليوم القادم، وغداً هو المنتظر؛ أي أن من يعتقد أنه سيكسب من خلال النظرة المفردة والمصلحة الشخصية، هو أول الخاسرين.

لذلك؛ لا يمكن لأي تطوير فكري أن يصل بالمجتمع إلى الأفضل إلا إذا كانت مصلحة المجتمع أكبر وأكثر من المصلحة الشخصية ومن الأغلبية، وهنا يكمُن الفرق بين النتائج النهائية للعمل الجماعي الذي يكون الفرد فيه هو المكون الأساسي والمستفيد الأول، وهذا يطبق في النظرة الوطنية بكل ما تشمل دون تفاصيل. وبمثال آخر مع اختلاف في تعريفه وحتمية النتيجة المشتركة، فعندما تصل النظرة المفردة بإنسان يتَّخذ قراراً لاختلاس مبلغ معين لنفسه، فهو لا يعلم أنه في الحقيقة يسرق نفسه، ليس فقط لأنه شريك من خلال المواطنة في ذلك المبلغ، ولكن دائرة الاختلاس ستصل إليه أو إلى من يورِّثه لهم، وقد يسرق في النهاية ابنه إذا كان الاختلاس أصبح صفة، وبذلك فإنه يُكمل دائرة الاختلاس على نفسه، حتى وإن طال أمد الوصول إليه وبذلك لن يكسب أي شيء.

الأمر الآخر الذي يُمكن أن يكون أيضاً من أهم الأسباب؛ هو: عدم مقدرة العالم المذكور على فهم أن العالم يتغيَّر ويتجدَّد بكل ما فيه من فكر وصناعة وأحداث وعلاقات وسياسة ومصالح وكل شيء، وأنَّ العالم في تغيره ودورانه وفي كل شيء أسرع بكثير جدًّا من مقدرة بعض الدول في العالم على مجاراة سرعته، بدليل أن الكثير منهم يعيشون الماضي بكل تفاصيله، ويصورونَ بعض الأحداث بأكثر مما كانت عليه فعليًّا، ولا يقبلون فيها أي مساومة أو شريكًا؛ وبذلك الاعتقاد يتم تقديم الشخص أو الدولة ويعتمد قبوله ومستواه بماضيه ولا علاقة له بالحاضر. وهنا، تمَّ تحديد الجانب الحقيقي والفعلي للإنتاج، ولو أنَّا نظرنا إلى شجرة النخيل، فإنها بكل وضوح لا يمكن أن تنتج في نفس المكان لعامين متتاليين، بل تجدد الارتفاع وترمي بالماضي وتُثمر في الأعلى، وإلا فلن تُنتج شيئاً إذا وقفت جامدة، وكم أنا في غاية السرور أنْ أقتبس عبارة راقية من المفكر العماني الأستاذ مرتضى اللواتيا؛ حين قال: "إن بعض المجتمعات تعيش بأجسامها عالم اليوم، غير أن فكرها يعيش الماضي السحيق".

أعتقد شخصيًّا أن لإيقاع الزمن نغمة ووتيرة لا يُدركها ولا يعرف قراءتها الكثير من المجتمعات حول العالم، وكذلك فإنهم لا يُصدقون أنَّ شيئاً من الماضي لم يعد مناسباً إلى ما لا نهاية، غير أن صعوبة التغيير ظلت حاضرة في كل مراحل التاريخ والحضارات، والمجيد والناجح من يستطيع أن يحاكي هذه السرعة في تغيُّر العالم، واتخاذ القرارات المناسبة التي تناسب العصر.