الشراكة المجتمعية ودورها في تطوير الأداء المؤسسي

 

د. علي بن محمد  الدرمكي

amkd@live.com

 

الشراكة المُجتمعية بمعناها البسيط هي الاستفادة من كافة الخبرات والمعارف التي يمتلكها أفراد المجتمع المحلي لتحقيق أهداف الوطن من خلال تضافر جهود ذوي العلاقة بالمؤسسة من إدارة وعاملين ومستفيدين ومزودين وأصحاب المصلحة والتي تسعى للتغلب على المخاطر والتحديات التي تواجهها المؤسسة فتمنعها من تحقيق أهدافها، بل وتسعى إلى الاستفادة من الفرص المتاحة والتي تضمن الرقي بأداء المؤسسة. فالمشاركة المجتمعية هي عبارة عن الطرق والوسائل التي تكفل التواصل مع كافة أفراد المجتمع ومؤسساته في كافة عمليات العمل الإداري بدءًا من التشخيص فالتخطيط ومن ثم التنفيذ فالمراقبة والمتابعة وصولاً إلى التحسين المستمر وضمان ديمومته على المدى البعيد.

وتبني الشراكة المجتمعية قرار في غاية الرقي والحداثة للمؤسسات التي تنتهج هذه الفلسفة، حيث يرفع من شأن المستفيدين من خدمات المؤسسة، ويعطيهم مساحة للتعبير عن آرائهم، ويشعرهم باحترام المؤسسة مقدمة الخدمة لهم مما ينعكس إيجاباً على رضا المجتمع عن المؤسسة وتقديرهم لها، كما إن الأدوات المستخدمة في ذلك سواء أكانت استبانة أو مقابلة أو تواصلا هاتفيا أو تواصلا عن بعد عبر البرامج الرقمية المختلفة سيصب في صالح المؤسسة حيث إنَّ المؤسسة ستستمع لعدد كبير من الآراء، وستجد حلولاً من أشخاص ذوي كفاءة ستساعدها في تبني القرارات المناسبة والتي ستدعمها في تحقيق أهدافها، بالإضافة إلى أنَّ المؤسسة ستشعر بالرضا عن القرار كون أن هذا القرار قد اُستلهم من آراء المستفيدين من الخدمة وأصحاب المصلحة، وساهم في اختيار أفضل الحلول وأنجعها عند اتخاذ القرار، ومن هنا سيكون القرار مقنعاً لإدارة المؤسسة ومقبولاً من كافة شرائح المجتمع وغالبيتها.

وهذه الفلسفة هي فلسفة الإدارة الناجحة بالمؤسسات، ففلسفة المشاركة المجتمعية هي ما تدعو إليها جميع الأنظمة الإدارية الحديثة، وإن المطلع على أنظمة الجودة يعلم أنها جميعاً تنادي بإشراك المستفيد من خدمات المؤسسة والذي يُمثل أفراد المجتمع المتعاملين مع المؤسسة في تقييم الخدمات وتطويرها كونه الملامس الأول لهذه الخدمات، حيث إنَّ أحد مبادئ الجودة الرئيسية هي التركيز على المستفيد، فمواصفة الآيزو 9001/ 2015 والمتعلقة بتطوير الأداء الإداري بالمؤسسة تتبنى متطلبا رئيسيا وتوجب تحقيقه وهو التركيز على رضا المستفيد من خلال الاستماع لآرائه وتوجهاته والتفاعل معها، وكذلك نموذج التميز الأوروبي EFQM، يشترط عند تطبيقه إشراك أصحاب المصلحة من خدمات المؤسسة والاستماع لانطباعاتهم والذي يعمل على تطوير أداء المؤسسة وتحقيق أهدافها بأكثر واقعية ويرفع من درجة رضا المستفيدين عن المؤسسة، كما إن مشاركة العاملين هي أحد مبادئ الجودة الأساسية والذي يوجب على إدارة المؤسسة الاستماع للعاملين اقتناعاً منها أنه كلما زادت وجهات النظر كلما زادت الخيارات المتاحة للوصول للأهداف بجودة أعلى وطرق أسهل ومدد زمنية أقل وبأكثر كفاءة في الأداء، وباختصار هذه هي الجودة. فمهما كان اختلاف المُسميات بين رضا المستفيد أو إشراك أصحاب المصلحة أو مشاركة العاملين فكلها تصب في صالح الشراكة المجتمعية والتي تنعكس صورة مُباشرة على تحسين الأداء وتجويده وديمومة تحسين هذا الأداء.

واحترام المؤسسة للعاملين بها والمستفيدين من خدماتها وأصحاب المصلحة يُسهم في تحقيق أهداف المؤسسة بجودة عالية أكان ذلك بصورة مباشرة أو غير مُباشرة، وإن الشعور بتكامل المسؤولية يبني ثقة بين المؤسسة والمستفيدين من خدماتها، ويجعل كل فرد يسعى إلى تطوير الأداء المؤسسي بما يضمن التغلب على المخاطر ويعمل على رفع مُؤشرات الجودة في الأداء، وللاستدلال على ذلك سنذكر نموذجان أحدهما عام للوطن وهو الرؤية المستقبلية "عمان 2040"، والآخر خاص بإحدى مؤسسات الدولة وهي وزارة التربية والتعليم وهو نشر استبيان بعنوان "البديل التعليمي" للعام الدراسي المُقبل.

أما رؤية "عمان 2040" والتي تبنت المشاركة المجتمعية العميقة في وطننا الغالي والتي قادها ملهم النهضة المُتجددة جلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظم- حفظه الله ورعاه- تلبية لأوامر السلطان قابوس بن سعيد مؤسس النهضة المباركة- غفر الله له وطيب ثراه- فقد كانت الدعوة لكافة أبناء الوطن للمشاركة في بناء الرؤية المستقبلية 2040، والتي تبنت خلالها نقاشات وتبادل أفكار ورؤى من خلال تبادل خبرات وإثراء بالمعارف بين كافة المشاركين في جلسات عدة للوصول إلى أفضل ما يكون للرؤية الطموحة، والتي انتجت رؤية استراتيجية متميزة ومتكاملة سنحصد ثمارها في الفترة القادمة بإذن الله.

والقرار العميق الذي انتهجته الإدارة العليا بوزارة التربية والتعليم في شهر أغسطس 2020 لإشراك المجتمع المحلي في ظل ظروف الوباء (كورونا/ كوفيد-19) بدراسة الخيارات الأنسب لتنفيذ الدراسة للعام الدراسي 2020/ 2021، تبنت الوزارة نشر استبيان بعنوان " البديل التعليمي" للعام الدراسي المقبل، فقد عممت استبيانا على كافة شرائح المجتمع للاستماع لآرائهم، واضعة العديد من الخيارات، وعلى أفراد المجتمع اختيار المناسب من بين مفردات الاستبيان، ولم تكتفِ الوزارة بذلك بل وضعت ما هو أعمق من ذلك وهو وجود نافذة في آخر الاستبيان للاستماع للمقترحات الأخرى التي ربما لم يطرحها الاستبيان في أسئلته ومفرداته والذي يعني احترام أفكار الآخرين ويعطي مساحة كبيرة للتعبير عن رأي المستجيب حول البديل التعليمي الأنسب للعام المُقبل.

فمن المعلوم أنَّ جائحة كورونا هي وباء عالمي تعاني منه كافة دول العالم، ولقد أجهد كل المؤسسات بدول العالم وأثر على اقتصادها بصورة مباشرة، حيث إنه وإلى الآن لا يعرف موعد انتهائه رغم المؤشرات الإيجابية التي يتفاءل بها البشر في كل العالم في محاولة إعادة الحياة شئياً فشئياً من خلال فتح الأنشطة بالتدريج، وبالرغم من أن الدول لم تصل إلى درجة التيقن من آليات التعامل معه كونه مرضاً حديث النشأة فإنَّ اختيار آلية واضحة للتعامل معه يحتاج إلى وقت غير معلوم يحتاج إلى مزيدٍ من الوقت، لهذا ارتأت وزارة التربية والتعليم تبني هذه الفلسفة الرائعة وهي المُشاركة المجتمعية للتغلب على القرار المُتخذ من خلال الاستماع للجميع ولكافة المختصين بالمؤسسات كونهم يلعبون في هذه الحالة دور المستفيد كونهم أولياء أمور لأبنائنا الطلبة.

إنَّ تبني هذه الفلسفة والتي تتبنى المشاركة المجتمعية بمختلف شرائحها وبتعدد طرقها وأساليبها وبتنوع أداوتها يجب أن تكون نهجا نسير عليه في خُططنا القادمة؛ إذا ما أردنا التميز وتطوير الأداء وتحقيق الأهداف بجودة عالية، فاحترام الفكر سيُسهم كثيراً في معرفة الطرق المناسبة التي توفر والوقت والجهد والمال للدولة وستسهم بالمستقبل في رفاهية الوطن وتقليل الهدر وصناعة الجودة التي هي في الأساس رؤية الحكومة وحلم كل مُواطن، وما هذان النموذجان اللذان تمَّ طرحهما في هذا المقال إلا مثالان بسيطان يوضحان جودة تطبيق الإدارة الحديثة في المؤسسات، ومن المؤكد أنَّ هناك العديد من المؤسسات على مستوى الدولة تسير على هذا النهج بخطط حثيثة سعيا منها لتطوير أدائها المؤسسي، من هنا فإن تغيير المفهوم المؤسسي ليكون مفهوم العمل معنياً بالدرجة الأولى بالتكامل والشراكة بين مقدم الخدمة والمستفيد من الخدمة. فبالشراكة المجتمعية ستحقق المؤسسات متطلبات خططها الاستراتيجية والتي ستمكنها من تلبية رؤية "عمان 2040" وتحقيق أهداف الوطن الغالي.

تعليق عبر الفيس بوك