خذلنا الطلاب!

 

 

د. أم السعد عبد الرحمن مكي

mekkioumsaad@yahoo.fr

أحد الأمور الباعثة على اليأس أن يتخرج سنويًّا آلاف الطلاب وفي تخصصات مختلفة، كانوا سيشكلون في مجموعهم وقودا يغذي نهضة الجزائر على مدار السنوات الماضية من عمر الاستقلال، وإن كانت فترات خلت أبدع فيها بعضهم، واستطاعوا أن يبلغوا مراتب ويتبوؤوا مكانات مهمة، لكن طلاب العقدين الماضيين تحديدا بلا وجهة، وفاقدون لبوصلة التغيير على الإطلاق.

لعلَّ المنظومة التعليمية التي تراخت لحد بعيد، وجعلت من النجاح رِهانا سياسيًّا لدى البعض أكثر منه موعد للتنافس العلمي أحد الأسباب المباشرة وراء حالة النجاح بـ"الكوتا"، ونجاح النسبة التي تصل إلى 70 بالمائة دون أن تنزل عن الخمسين.

أيُّ براعة هذه؟ وأيُّ عقل يمتلكه هؤلاء التلاميذ الذين كما تساووا في تكافؤ الفرصة الأولية ينتهون عند ذات النقطة وبنجاح مزعوم؟! وقبل هذا الوقت، كانت امتحانات البكالوريا تحديدا المصيرية و(التعجيزية) تأكل طموح العشرات من جهابذة التلاميذ ممن قضت عليهم منظومة التعليم السابقة لمجيء الوزير بن بوزيد.

وهذا ما جعل التعليم تميزه مرحلة التعجيز، ثم مرحلة التراخي، ولم يستفد في كلا الحالتين من أي شيء يذكر، بل على العكس ففي المرحلة الأولى خسرت البلاد قدرات كثيرة كانت متميزة أحيلت على الحياة المهنية كرها، وأية حياة كانت قبل اليوم.

والمرحلة الثانية مكنت تلاميذ بعقول فارغة، وبطموح مفقود، وبدافعية منعدمة من الانتقال إلى الجامعات والمدارس التطبيقية، ولا يشمل طبعا الحديث (الكل)، غير أن الغالبية العظمى منهم ينتقلون بغرض الانتقال ومجاراة ركب المتدفقين باتجاه أبواب الجامعات، والحالمين بالتنزه بين جنبات ساحاتها، والاسترخاء عند الأشجار المثبتة بأرض الأقسام.

يبدو الوضع مع كل ذلك، كما لو أنهم قدموا قبل هذه اللحظة عصارة ما لديهم ويحق لهم الخلود للراحة، رغم أن الجامعة كما قال لنا أستاذ في بداية الالتحاق بها هي معترك من نوع آخر، هي المكان الذي تصقل فيه التخصصات، ويتشرب الطالب الحق من مناهلها، هي ميدان البحث الجاد والرصين، وهي من القداسة بمكان ما يجعلها كما كانت قبل هذين العقدين (حلم الحالمين وأمل المتعطشين لمزاولة الدراسة والالتحاق بالصفوف الأولى في قاعات المحاضرات).

لكن، ما يجري اليوم وتعداد الطلاب بالآلاف أن لغة (الكم) هي السائدة في مطلق الأحوال، وقد ضاع النوع في خضمها شئنا ذلك أم أبينا، غالبية الطلاب يرددون ذات العبارات المقيتة عندما تسألهم عن سبب اختيار التخصص، إمَّا تأسيا بصديق، أو نتاج اختيار عشوائي أدخله بالنظام المعلوماتي، بحيث أنه في غالب الأحيان لا يدري أصلا لماذا التحق بالجامعة.

ونتيجة هذه الرعونة الطلابية، ولا مبالاتهم، فإنَّ نتائج التعليم وإن انطوت على كثير من الشهادات، إلا أنها ولسوء الحظ لا تتماشى وسوق المهن والعمل، وعندما يحتك الطالب بها لا يظهر الحذاقة والمهارة اللازمة، كما لا يستطيع أن يصل إلى إثبات حتى أنه يستحق ما وصل إليه، الطالب لا يتعب في كثير من التخصصات، لا يبذل جهدا، لا يهتم، ليست الجامعة شغله الشاغل، هو يريد أن يسوق الشارع ومحيطه الخارجي داخل الحرم الجامعي وليس العكس.

هنا هي نقطة الحرج الشديد، أن يأتي طالب للجامعة بغرض خلق تأثير عكسي، فبدلًا من أن يضيء المجتمع يظلم الجامعة، وتكون نتيجة كل ذلك أسئلة الناس ومقربيه من خارج محيط الجامعة: ماذا تدرسون إذن؟ فيكون جوابًا أحمق على شاكلة: نذهب فقط للجامعة!

ولأنَّ عينة كهؤلاء وهم كُثر بالجامعات الجزائرية، فإنَّ الخطاب المروج عن غالية هذي المؤسسات أنها لا تفعل شيئا، ولا تبلي في مسعاها بشكل حسن، فتبدو صورتها باهتة، وتظهر في محل المتهم بالتقصير، كما تبدو أنها لا تبذل أي جهد هي وكادرها البشري والإداري منه والييداغوجي، رغم أن جهودا كثيرة تبذل من طرفهم.

ويظهر التقصير في رسالة رئيس الجمهورية السيد عبدالمجيد تبون، والتي وإن خاطب الطلاب من خلالها بشكل مباشر، مُعِيبا عليهم ومستغربا في آن تخريج الجامعات سنويا آلاف الطلاب مقابل أنهم لم يتمكنوا من تصنيع او خلق أي شيء، وأبسط مثال قدمه (محرك ثلاجة)، إلا أن التوبيخ المبطن موجه إلى المراكز وخلايا البحث، إلى المدرجات والأقسام، وغير ذلك لأن الجميع شريك في تراجع دور الجامعة وعلى مستويات مختلفة، وأيضا بنسب متفاوتة من الضرر مقابل المنافع التي قد لا تظهر غالبا.

إذن.. أين تتجه الجامعة الجزائرية والطالب فيها مُتمسك بمبدأ (خذلان) منظومته؟ طالب اعتاد على رفاه الحياة، وهو في زمن يرى أنه أكبر من أن يدرس، هو في زمن التكنولوجيا -التي تبدو له وكبأنها خلقت من غير أبحاث وجهود مضنية، رغم أن مؤسسات عسكرية وبحثية كانت وراء خروجها إلى النور- طالب لا يؤمن بأن العلم هو الميكانيزم الأساس لإحداث كل تغيير، على مستواه الشخصي بالدرجة الأولى قبل أن يطال محيطه، حقيقةً كلما اقتربنا من بعض الطلاب احترقنا بكومة التحقير التي لديهم، وأساليب البلاهة والسذاجة المصطنعة، والتبجُّح الزائد، ونُكران الجميل، والأدهى من كل ذلك هو الرأس الكبير الذي ليس فيه إلا بعض (التبهليل).

تعليق عبر الفيس بوك