السمك في البحر.. وشلون عايش!

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

من القصص الشعبية المتداولة، أنه قديما في إحدى القرى بوسط نجد، كان شابا يدعي عايش أحب ابنة أحد كبار القرية واسمها نورة، بادلته الشعور، فتقدم لوالدها الذي رغم استقبالة الطيب للشاب والإشادة بسيرة أهله، إلا أنه لم يلبِّ طلب الشاب واعتذر له بعذر مؤدب؛ إذ بيّن له أنه يتشرف به، لكن حالته المادية لا تسمح له بالزواج من ابنته، فاستأذن الشاب بعد شعوره بالخيبة، أو قل بالاستنقاص. وأثر هذا الموقف على الشاب عايش، فقرر تعديل وضعه المادي ومن ثم الاجتماعي حتى يرد اعتباره أمام نفسه أولا، وأمام والد نورة ثانيا. فاستأذن من والدته (بحسب الرواية المتواترة والدته وليس والده؛ إذ يبدو أن والده متوفى) ليسعى في مناكب الأرض، وفعلا توجه إلى إحدى المدن المعروفة تلك الفترة واشتغل ومكث فيها عدة سنوات، وتعدل وضعه المالي، وقرر العودة إلى قريته ووالدته ونورة!

وصل الشاب إلى قريته مبتهجًا بالوضع الجديد؛ فعايش اليوم ليس كعايش قبل أربعة سنوات؛ إذ وصل القرية على ذلولِ محملة بكل الأرزاق كهدايا وغير ذلك (الذلول أي ما يركب من الأبل بعد عسفها).. وصل واستُقبل أفضل استقبال، وتجلت عليه آثار التغيير المالي. وأثناء جلوسه- بعد ذلك- مع رفقاءه (لم يسأل والدها لصعوبة ذلك) من أهل القرية علم أن نورة تزوجت قبل سنتين من رجل غير معروف لدى أصحابه، ومن بلدة أخرى غير بلدته، فسأل ولم يجد جوابا عن البلد التي تعيش فيها الآن، ولأن السنين الماضية كانت من أجل نورة، لم يهنأ بالجلوس والاستقرار في القرية.

ذهب الشاب ومعه مال ليس بالقليل يسعى بين القرى ليبحث عن نورة، ووصل أول قرية بعد وقت ليس طويلا (تقريبا يومين أو ثلاثة أيام) وعندما وصل وصلّى مع أهل القرية وكان واضحا أنه غريب عن القرية، دعاه أهل القرية المتواجدين بالمصلى لاستضافته كعادة العرب، وبعد الاستضافة وفي مجلس يجلس فيه عدد من الرجال، قال عايش لأهل القرية المتواجدين معه بالمجلس: عندي لغز ومن يحل هذا اللغز له مالي وكل ما أملك معي!! قالوا له: ما الغز؟ لعل أحدنا يجد الحل، قال: "بنشدك عن ضوء القمر وشلون نوره؟".

قالوا سهل لونه أبيض، وآخر قال لونه يميل للاصفرار، وتعددت الاجتهادات، لكنهم قطعا لم يصلوا للحل المطلوب، وقرر عايش الرحيل إلى قرية أخرى لعل وعسى!

حسب الرواية فقد مر على أكثر من قرية خلال وقت قصير بمقاييس تلك الفترة، وفي كل قرية يحدث نفس الموقف، ولا أحد يجيب. وصدق من قال: المعنى في بطن الشاعر!

وبعد مشوار ليس بالقصير بين عدة قرى، وجد ضالته؛ حيث جلس- كالعادة- بين رجال القرية وطرح اللغز، إلا أن أحد الجلوس كان صامتا ولم يجب على سؤال اللغز، لكنه حفظه بقلبه، فلما وصل بيته حدث امرأته (وهي نورة بالفعل) بأن رجلا غريبا يبدو عليه أنه أهبل ومعه مال كثير، طرح علينا لغزا غريبا ولم يستطع أحدا من الجلوس حله، وجائزة الحل مغرية جدا؛ إذ هي مال وفير، وكأنها فهمت وسبحان من يجمع الحي بالحي، سألت زوجها ما هو اللغز، قال: "بنشدك عن ضوء القمر وشلون نوره؟"

نورة ذكية "وتفهمها وهي طايرة" كما يقول المثل؛ إذ فهمت المعنى مباشرة وذهب حدسها إلى عايش، وكأنها أسرت في نفسها بأنه عايش وليس غيره وهذه إشارة، فقالت لزوجها أنا أحل اللغز لكن بشرط، قال زوجها ما الشرط: قالت إن صح حل اللغز وفزت بالمال الوفير.. تطلقني!

استغرب الزوج هذا الشرط، لكنه ولشدة ولعه بالمال وافق موافقة غير المتوقع لما سيحصل، وقال ما الحل: قالت: "مثل السمك في البحر وشلون عايش!".

ذهب صباح اليوم التالي للغريب صاحب اللغز، وقال له أنا البارحة كنت أحد الجلساء وسمعت اللغز، والآن جئتك ومعي الحل، قال له ما الحل: قال: مثل السمك في البحر وشلون عايش!

فهم عايش مباشرة أن الحل من نورة وبأنها فهمته بذكائها المعهود، وتنبأ بأن الرجل هو زوجها ولا شك، فقال له: نعم صدقت هذا حل اللغز، وهذا هو المال، وأعطاه إلى جانب المال، بعض الهدايا، وذهب الرجل مسرورا لزوجته وقال لها البشارة، وحقق مرادها وطلقها، وبعد ذلك عادت مع عايش.

لكن لم تذكر الرواية كيف التقت نورة بعايش، لكن يبدو أنها قالت لطليقها أوصلني لصاحب اللغز وهناك تقابلا!

بالطبع القصة تتقصها تفاصيل وربما زادت فيها التفاصيل، كحال القصص المتواترة على أكثر من لسان وأكثر من مصدر، لكن لو حدثت في زمننا هذا هل ستكون كما حدثت بالضبط؟

في عصر وسائل التواصل هل نتصور أن عايش سيسأل جلساء مجلس ما عن ضوء القمر وشلون نورِه؟ وكما أن لكل زمان دولة ورجال، فلكل عصر رواياته وحكاياته المناسبة لظروفه، وفي القصص عبر كثيرة، أكثر من قصة عايش ونورة!

تدور الأيام وتتغير الأزمان، ولكل زمان دولة ورجال وحتى نساء، فمن كان يتصور أن تفهم نورة اللغز بذكاء، ولو أسقطنا هذه القصة على عصرنا هذا لوجدنا دروسا لا تعد!