فن المسافات.. مذكرات في زمن "كورونا"

د.عبدالمجيد العمري

حديثًا.. اكتشفَ العلماءُ أنَّ الذكاء ليس نوعًا واحدًا؛ فهناك ثمانية أنواع؛ من أهمها: الذكاء العاطفي؛ فالمشاعر قوة مشتعلة لها جانبان مشرق ومظلم؛ وحسن استخدام هذه القوة ينير حياتك أو يجعلها نارا مشتعلة.

علميًّا.. إذا اقتربنا من الشمس أمتارا سيتغير المناخ وتتعطل الحياة في الكون، ولو ابتعدنا سيبرد الكون؛ وهكذا هي نار الشوق والقرب والحب والبغض والفقد والوجد؛ وذلك الرابط العميق المسمى الحب؛ لذا جاء في الحديث: "أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما"، و"هونا ما" هو تفسير فن المسافات.

نشتاق ويسكن في قلوبنا الوجد؛ ونصحو لنكتشف أن ما يقاسمنا الشوق مجرد حلم؛ ونعود للنوم وبداخلنا سكون ولفحات برد قارس عنوان البعد؛ فالبعد والقرب كما يكونان معنى يكونان حسا؛ لذا ذهب نور يعقوب عليه السلام شوقا لرؤية ابنه يوسف عليه السلام. لكى يبقى الجميل فى عينيك جميلًا، لا تقترب منه كثيرًا.. البعض أجمل من بعيد؛ فالبحر نقف على  شاطئه الجميل نتلمس جماله ولو اقتربنا منه لغرقنا؛ والقمر يتلألأ بنوره في السماء ولو وصلنا إليه لرأيناه كومة كبيرة من الأحجار.

خُذ العفو من أخلاق الناس؛ ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها؛ وغض الطرف عن العثرات وتلمس الأعذار؛ وضع تلك الهفوات في ظرفها الخاص ولا تقترب كثيرا في التوصيف والتحليل؛ فنحن عصارة تراب مخلوطة بماء؛ ينفث الشيطان في عقولنا؛ فنفقد الرؤية ونتعثر أحيانا فنسقط؛ ولو كان كل من سقط تركناه لتركنا أبونا الأول الذي أكل من الشجرة؛ ولا تنسى فأنت وأنا ونحن جميعا صورة من صور ذلك المخلوق النازل من السماء ليواجه عنفوان الحياة وهمسات الشيطان.

حوادث السياقة تحدُث بسبب القرب وعدم ترك المسافة؛ وهكذا هي حوداث العلاقات؛ وعالم كبير من صرعى الفراق والندم؛ والأخطاء الاجتماعية القاتلة، وفي سورة النور إشارات لمعرفة الحدود وعدم تجاوزها؛  قال تعالى: "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ" (28،27).

وذكر الفيلسوف الألمانى شوبنهاور أن "مجموعة من القنافذ اقتربت من بعضها فى إحدى ليالى الشتاء القارسة طلبًا للدفء، وهربًا من الجو الجليدى شديد البرودة، لكنها لاحظت أنها كلما اقتربت من بعضها أكثر، شعرت بوخز الأشواك التى تحيط بأجسادها، مما يسبب لها المزيد من الألم.. وأنها كلما ابتعدت عن بعضها البعض شعرت بالبرودة تجمد أطرافها، وبحاجتها للدفء فى أحضان أصدقائها! بقوا على هذه الحال بين ألم الاقتراب، وهجير الانفصال؛ إلى أن توصلوا إلى المسافة المناسبة التى تقيهم من برودة الجو الجليدى وتضمن لهم أقل درجة من ألم وخز أشواك الأقارب".

كثيرة هي الأشواك التي حولنا؛ والتي كذلك بداخلنا؛ فلنضع لخطواتنا حدودا؛ نتلمس دفء المشاعر بدون أشواك؛ فالورد رأئحته عطره ومنظره خلاب؛ وعندما تلامسه تجد شوكا يؤذيك؛ فهناك نوع من الجمال يحتاج رعاية خاصة ليبهرك ويصنع في نفسك الجمال.

تعليق عبر الفيس بوك