إغلاقات "كورونا"

نمير بن سالم آل سعيد

الأمراض الفيروسية الإنفلونزية الوبائية ليست بغريبة على البشرية؛ فقد شهدها العالم من قبل، وجاءت لفترات مُؤقتة وجيزة منتقلة إلى الإنسان، وتسببت في مقتله بأعداد محدودة، وما لبثت أن تلاشت ورحلت، ولم نعد نسمع عنها شيئاً، ومنها فيروس "سارس" في عام 2003، وإنفلونزا الطيور في 2005، وإنفلونزا الخنازير في 2009، والآن كورونا "كوفيد 19".

وتستمر مشاهد "كورونا" الدرامية اليومية بتكدير حياة النَّاس وتنغيص معيشتهم، بإغلاقاته المُتعددة والتي تبدأ من إغلاقات الكمامات على الوجه، إلى إغلاقات القبور على الضحايا الملاقين حتفهم من جرائه. ومن يُؤمن بنظرية المُؤامرة فإنَّ هذه الأمراض أتت من أجل إخافة الحكومات وشعوبها لإجبارها تحت ضغط شعبي على شراء معدات الكشف عن المرض وأدوات الوقاية وأدوية العلاج واللقاحات اللازمة لاحتواء المرض، بهدف جباية مليارات الدولارات لصالح شركات الصناعات الدوائية العالمية التابعة للدول الصناعية الكبرى، والتي تدعم هذه الشركات من أجل مصالحها الخاصة على حساب بقية الدول الأخرى المغلوب على أمرها. وهذه هي طرقها للحصول على الأموال؛ إما بنشر الأوبئة المُعدية من أجل بيع اللقاحات والأدوية العلاجية، أو ببيع الأسلحة للدول التي تُؤجج فيها الخلافات وتشعل بها المواجهات العسكرية.

وبعيدًا عن نظرية المُؤامرة ومن المُستفيد الأكبر ومن الخاسر من نشر هذه الأزمات والنكبات في الدول على اعتبار "مصائب قوم عند قوم فوائد"، فكورونا واقعٌ حي بيننا، زائرٌ ثقيل يأبى الرحيل، لا يُوجد له علاج أو لقاح حتى الآن، وينتشر سريعاً، ليموت من يموت ويسلم من يسلم، ولا حل إلا الالتزام بالإجراءات الاحترازية والتدابير الوقائية التي تفرضها الدولة لمصلحة المواطن والمُقيم.

لقد انتظر العالم أن تنتهي جائحة كورونا بعد عدة أشهر قليلة من انتشارها؛ كأخواتها السابقات اللاتي أتين ورحلن بتصنيع اللقاح وتوفير الدواء وبيعه  للدول وجني الأموال وطي هذه الصفحة من المُعاناة.

لكن جائحة كورونا أطالت أمد البقاء وظلت الأزمة جاثمة بثقلها على الحياة، وأصبحت القضية ليست مجرد أموال يتم دفعها مُقابل السيطرة على المرض والقضاء عليه لتجاوز الأزمة، وإنِّما أصبح وجود هذه الجائحة يضرب في عصب الاقتصاد، ويشل حركته بخسائر فادحة، ويُقيد حرية النَّاس في تنقلاتهم وتجوالهم، وقد رسموا من قبل للحياة صورة زاهية من النشاط والحركة، والعلاقات الاجتماعية، والعمل الدؤوب، وهكذا استمرت حياتهم بطبيعتها الاعتيادية منذ تدفق الوعي في كيانهم، إلى أن جاء هذا الفيروس المستجد الذي لا يُرى بالعين المجردة ليُهدد حياتهم ويتوعدهم بالموت بأعداد كبيرة.

ولو كان ما نواجهه تنيناً طائراً ظهر في الأجواء ينفث من فمه النار ويتطاير من عيونه الشرر يبتغي حرق الأنحاء لسهل تدميره، أو ديناصوراً بُعث من جديد ليُدمر بجسده الضخم الساكنين ومساكنهم لسهل القضاء عليه أيضًا. إنما هذا هو كورونا "كوفيد 19" المُتواري عن الأنظار المُندس في الخفاء، السفّاح الميكروسكوبي الصغير الصامت، الذي يجوب الأنحاء في كل مكان، منتهزًا الفرصة للهجوم المُباغت للقتل، ثم ينْفذ بجريمته دون مُحاكمة، ويستمر بالقتل غير عابئ بأحد، ليساق الضحايا إلى غرف العناية المركزة والمقابر الجماعية دون عزاء أو وداع للأحبة.

فارتعب النَّاس وتعقموا وتكمموا وانعزلوا، وأصبحوا محرومين من أبسط الأشياء الجميلة المتاحة لهم، والتي لم يتوقفوا عندها يوماً لأداء واجب الشكر لله على توافرها في حياتهم، فهي لديهم من المكونات الحياتية الثابتة التي وجدوها معهم منذ وعيهم على الدنيا وامتداد ذاكرتهم، فانقطعت عنهم فجأة، فالخروج ممنوع.. والمصافحة محظورة.. واللقاءات ملغية!!

وازدادت أهمية هذه الأشياء وكثر الشوق إليها، فالمُصلّي يشتاق للسجود في مسجده، والابن يفتقد لتقبيل يد والدته، والأخ يحن إلى لقاء أخيه والصديق لأصدقائه، والشوق إلى قهوة المقهى، ومائدة المطعم، والنادي الرياضي، ودار السينما. كما يشتاق الموظف إلى وظيفته، والطالب لمدرسته، والتاجر لتجارته... كل يفتقد شيئاً عزيزا جميلاً كان متوافرا دائماً تحت إمرته، لم يحسب له حساب، ولا قدّره حق قدره.

لا تزال جائحة كورونا في انتشار تحدث ضررا صحياً واقتصادياً واجتماعياً، لكن باستمرار تكاتف الجميع في البلاد بالإرادة الصلبة والأمل المضيء، سنخرج أقوى بإذن الله.

إنَّ المعركة ضد كورونا لم تنتهِ بعد، والحرص على تنفيذ الإجراءات الوقائية والاحترازية المعتمدة من الدولة، واجب وطني علينا جميعاً الالتزام به واتباعه، وما لمسناه من تعاون وتكاتف المجتمع مع الجهود الحكومية المبذولة للتقليل من الآثار الناتجة عن جائحة كورونا يستحق الشكر الجزيل.. ودمتم سالمين بخير.