مدرين المكتومية
ليس ثمَّة فاجعة أعظم من الموت، فانقطاع الروح عن الجسد، وارتقائها إلى بارئها، يترك الأهل والأحبة والصحب في حزن عميق مُوجع، يفجر نبضات ألم قاس في القلب، فرغم أنَّ هناك الكثيرين يرحلون بعيدًا ويتخلون عنَّا، لكن ما أصعب الرحيل حين يكون بلا عودة، وبلا حياة أخرى في الدنيا!
هناك رحيل تصغر أمامه كل الأحزان، ورحيل آخر يتركنا بلا قدرة على التصديق، فنقف صامتين أمام ذلك الرحيل المُؤلم الذي لا قدرة لنا على تقبله، عندما تحلق أرواح نحو السماوات العلى لكن دون تذكرة إياب، هو رحيل بلا مواعيد أو عهود أو مواثيق، رحيل قدري لا قدرة لنا على ردعه أبدًا، فقط نقول "اللهم أجرنا في مصيبتنا...".
الموت هادم اللذات ومُفرق الجماعات، يأتي مُباغتا، ليس كأي رحيل نتوقعه ونعتقده، إنِّه رحيل لعالم آخر نجهله، ونجهل الكثير عنه، لكنه في النهاية رحيل بلا وداع يُذكر... هكذا رحلت سحر عبدالقادر عسقلان، ذهبت ذات ليلة لتتوسد وسادتها وتنام قريرة العين آمنة مطمئنة على نفسها وعلى أهلها وأحبائها، وكذلك كانوا هم، تركوها في أمان الله وحفظه.. لكن نومها في تلك الليلة لم يكُن معتادًا، فهذه المرة ذهبت إلى مخدعها لتنام إلى الأبد، وكأنها كانت تحلم بوالدها الذي رحل قبل رحيلها بأشهر.. أذكر تفاصيل ذلك الرجل الطيب حين كان يأتي إلى مقر جريدة الرؤية، ليشمر عن سواعد الجد ويختلي بذاته ليكتب مقالته التي كانت تلقى صدى رائعاً، كان رجلاً يرى الحياة من نوافذها المفتوحة ويملك نظرة استشرافية لقادم أجمل.
كلما تذكرت رحيل سحر الساحرة بأخلاقها وطيبتها، الفاتنة بابتسامتها الرقيقة التي لم تكن تغيب عنها لحظة، أتذكر رسالة أختها التي كانت بمثابة درس في إجراءات الأمن والسلامة التي يجب أن يلتزم بها أي شخص لحماية نفسه وعائلته من أية إشكاليات قد نراها بسيطة، لكنها أيضاً قد تكون سبباً من أسباب رحيل أي فرد من الأسرة أو ربما يذهب ضحيتها عائله كاملة.. فالرحيل ليس سهلاً، فهناك رحيل متوقع وآخر لا، هناك مريض نؤمن أن بقاءه بالقرب منِّا قد يمتد لسنوات أو لأشهر بإذن الله، لكن هناك شخص لا يُعاني من أي مرض لكن رحيله يتركنا في هول الصدمة غير مصدقين ما الذي حدث؟ أيعقل أنَّه رحل ولن يعود؟ دون وعد بسيط بالعودة.؟!
الموت لا يعرف أحدًا، فهو يأتي بكل هيبته وأحزانه، فيأخذ منِّا أكثر الأشخاص قرباً لنا، يأتي بكل ما يمتلكه من قوة لينزع من بيننا السعادة، الموت لا يملك القدرة على أن يُفاوض، أو أن يتريث، يأتي هكذا ليُخبرنا بعجزنا أمامه، مهما تقدَّم العلم، ومها تطورت التقنيات، وأمام نفوذه القوي، وسلطته التي نخضع لها بكل إرادتنا لأننا لا نملك أي طاقة لتغييرها، فإننا لا نملك سوى أن نودع من نحب، مضطرين أن نتجرع مرارة الوداع، وصعوبة الموقف.
رحلت سحر عسقلان بهدوء وبكل صمت، رحلت وهي تحلم بحياة أخرى تنتظرها، رحلت وهي تحلم بأنها في عالم آخر، رحلت لذلك العالم وتحقق حلمها، فقدرها أن تذهب نحو الحلم وأن تسكنه دون أن تعود لواقعها، لم يبق من الواقع سوى دمار حريق وبقايا ذكريات يُرددها أفراد أسرتها بكل حب وشوق لأيام رحلت لن تعود، ولحظات لمواقف وأحداث عاشوها سوياً.. فرحمة الله على أحبائنا.. ورحمة الله على من فقدناهم ولن يعودوا!!