الشيخ غصن العبري.. بين الحزم واللين

ناصر العبري

الشيخ غصن بن هلال بن محمد بن سالم العبري شاعر وأديب ووالٍ سابق، ولد عام 1372هـ (1953م) بمدينة العراقي من "أرض السر" التي هي الآن ولاية عبري بمحافظة الظاهرة، وقد انتقلت أسرته إلى ولاية الحمراء وعمره لم يتجاوز عاما واحدا، وهناك بين أحضان الطبيعة وعلى سفوح الجبل الأخضر، ترعرع متنقلًا بين البساتين والأودية وسفوح الجبال، فكان لتلك البيئة أثرها في تكوين شخصيته الممتزجة بين الحزم واللين، بين الصرامة واللطف؛ كحال النخلة الشماء على سفح الجبل الأشم.

درس القرآن الكريم على يد معلمة الأجيال الشيخة الفاضلة شيخوه بنت محمد بن سالم بن بدر العبرية، في حين قرأ "تلقين الصبيان" مع الشيخين الفاضلين ناصر وعبدالله ابني محمد بن عامر العبري في مدرسة السحمة بولاية الحمراء.

وكحالة الكثير من العمانيين قبل عصر النهضة، سافر إلى دولة الكويت بغية تلقي العلم، لكن المشكلة التي واجهته أنه قد بلغ الخامسة عشرة من العمر فلم يكن بإمكانه الالتحاق بالمدارس مع الطلبة المنتظمين فالتحق بالدراسة المسائية. ومع بزوغ فجر النهضة المباركة عام 1970م بدأ العمانيون العودة إلى وطنهم تباعا.

وفي عام 1975 التحق بوزارة التربية والتعليم بوظيفة سكرتير مدرسة في مدرسة الإمام سلطان بن سيف بمدينة نزوى، ثم سكرتير مدرسة أبي سعيد الكدمي بولاية الحمراء.

وقُدِّر له أن يشهد المراحل الأولى من التعليم في ولايتي نزوى والحمراء وشاهد كم هي الصعوبات التي كانت تعترض المسيرة التعليمية في تلك الفترة، فلم تكن بعد الطرق قد نالت نصيبها من التنمية، وكان الطلاب في بعض المدارس يُدَرّسون تحت الخيام، كما إن المعلمين- وأغلبهم من الدول العربية الشقيقة- قد بذلوا جهدا في التأقلم مع طبيعة وتضاريس السلطنة، وهنا أود أن أشير إلى أننا لا ننسى تضحياتهم ووقوفهم معنا في تنشئة جيل البناء والتعمير.

ولأن الإنسان مجبول على حب التغيير والتنقل، ناهيك عن رغبته في تحقيق طموحاته، فقد قرر العبري الانتقال إلى وظيفة أخرى، فقدر الله له أن يلتحق بوزارة الداخلية التي كانت وقتها تعكف على تطوير عملها الإداري، مستفيدة من بعض العناصر الشابة التي تشكلت لديها خبرة في العمل الإداري في مؤسسات أخرى؛ مثل التربية والتعليم والقوات المسلحة.

وبالفعل تم تعيينه في وظيفة مساعد نائب والي منتدب بوزارة الداخلية، ليكتسب جانبا آخر من المعارف ذات العلاقة الأكبر بعمل وزارة الداخلية.

واستمر عمله بديوان عام وزارة الداخلية متنقلا بين الإدارات المتعددة، منهيا عمله بديوان عام وزارة الداخلية في مكتب سعادة وكيل الوزارة معالي الشيخ عبدالله بن علي القتبي، حين صدر القرار الوزاري من معالي السيد بدر بن سعود بن حارب البوسعيدي بتعيينه نائبا لوالي الرستاق عام 1981م، وهناك بدأت رحلته الطويلة في الولايات.

لم يكن العمل في مكاتب الولاة ذلك الزمان كما هو الحال الآن، فقد كانت السلطنة في أوج مرحلة التأسيس، وكان وصول الخدمات إلى المدن والقرى يتطلب الكثير من الجهد الذهني والعمل البدني الشاق.

وكما هو معلوم اتساع رقعة ولاية الرستاق جغرافيا وصعوبة تضاريسها وكثرة أوديتها، فقد كان مكتب الوالي هو الجهة الوحيدة المعنية بدراسة احتياجات المناطق من خدمات الطرق والصحة والتعليم والمعونات الاجتماعية، لذلك كان على الوالي أن يقوم بجولتين استطلاعيتين كل شهر؛ يقدم خلالهما تقريرا إلى وزارة الداخلية بالمناطق التي زارها والخدمات التي تحتاجها، ولم تكن تلك الجولات نزهة، كما هو حال اليوم، إذ إن السيارة لم تكن تسير في طريق معبدة، وكانت الصخور التي تعترضها تجبر الركاب على النزول من السيارة لإزاحتها، وكانت الجولة تستغرق يومين إلى ثلاثة أيام، يعود بعدها الوالي وفريقه لتفريغ معلوماتهم في تقارير تجد طريقها إلى الجهات المعنية في مسقط، حيث لم تكن هناك مكاتب إقليمية لكثير من الوزارات، كما إن التركيبة القبلية للمجتمع في بداية العهد كانت تحتاج لجهد غير عادي من شخصية تحمل ثقلا مثل الوالي، فكثير من المشاريع كانت تواجه اعتراضات ومكايدات، وكان الوالي يبذل جهدا كبيرا في سبيل إقناع هذا الطرف أو ذاك.

وكانت مكاتب الولاة في تلك الفترة معنية بكل عمل سيادي أو إداري بالولاية، حتى القضايا الجزائية والمرورية، كان يتم البت فيها من قبل الوالي.

وهكذا استمر عمل الشيخ غصبن العبري في الولايات والمناطق، من الرستاق إلى البريمي إلى الخابورة إلى سمد الشأن إلى بركاء إلى وادي دماء والطائيين إلى ولاية منح إلى القابل إلى وادي بني خالد إلى بدبد التي كانت المحطة الأخيرة لمسيرة استمرت 30 عاما.

إن وظيفة الوالي- لمن يقدرها- هبة عظيمة؛ فهي تتيح له أن يعرف كل دقيقة وجليلة في الولاية، من سكانها وجغرافيتها ووشائج أهلها، ناهيك عن تقدير وإجلال الناس له، باعتباره ممثلا لجلالة السلطان المعظم في الولاية.

وإلى ما قبل إنشاء المحافظات، كان الوالي يستطيع مخاطبة من شاء في الدولة لا تقيده لوائح، وذلك ما أكسبه ثقة المواطنين واحترامهم.

وأذكر هنا 3 مواقف على سبيل المثال، للأدوار التي يقوم بها الوالي، والتي قد لا يعرفها بعض الناس، للدلالة على أهمية دور الوالي في الولاية؛ أولها: مطالبة الأهالي في إحدى الولايات بإنشاء مدرسة، لكن واجه المشروع اعتراضات على المواقع المقترحة في أماكن عدة دون وجود مبرر لذلك، فتدخل مكتب الوالي وأقيمت المدرسة بالجهود الذاتية إلى أن أعادت بنائها وزارة التربية والتعليم، وأصبحت تلك المدرسة مركز إشعاع يشهد على صحة موقف متخذ القرار في ذلك الوقت.

أما الموقف الثاني فقد كتب الوالي إلى معالي وزير التربية والتعليم بشأن تدني مستوى نتائج الطلاب في ولايته، وذلك بسبب عدم استقرار المعلمين في مدارس الولاية، وقد عرض معاليه رسالته على معالي وزير الداخلية الذي أراد أن يناقش الوالي فرد عليه أن وجه إلى الوالي رسالة بعدم صحة مخاطبة الوالي للوزير.

وفي موقف ثالث قامت وزارة البلديات وموارد المياه بإنهاء اتفاقية تزويد إحدى القرى بماء الشرب، ونتيجة لذلك غضب الأهالي وأصحاب ناقلات المياه، فأخذ يتصل بالمسؤولين واحدا تلو الآخر دون أن يحصل على جواب، حتى وصل الأمر إلى الوزير، ونقل إليه الوضع، فأمر الوزير أن يتم تزويد القرية اعتبارا من ذلك اليوم بثلاثين ألف جالون يوميا، ولم ينته دوام ذلك اليوم إلا وكانت الصهاريج تصب الماء في خزانات منازل المواطنين.

تلك نماذج مما كان الوالي يستطيع عمله في ولايته.

وعبر الشيخ غصن العبري في مواقف عدة عن امتنانه العظيم للحكومة وللقبائل ولكافة المواطنين الذين أحاطوه بحبهم واحترامهم في كل ولاية عمل فيها، أو كانت مجاورة للولاية، نتيجة التواصل الاجتماعي الحقيقي آنذاك، وذلك هو رصيده الذي يفتخر به اليوم.

وكتب الشيخ غصن العبري العديد من الأشعار في الوطن والقائد، تعبيرا عن حبه وعرفانه لما ناله من فيض واسع، لكنه لا يصنف نفسه شاعرا، تواضعا منه الذي يشهد عليه القاصي والداني.

كما إن كتاباته عن قضايا الأمة كثيرة لا يتسع ذكرها في هذا المقال، لكن نعرج على بعض الأبيات من قصيدته الوطنية بعنوان "البيعة":

توقف عن نحيبكَ يا فؤادي// فقابوس المعظمُ ذو الأيادي

لنا أوصى بهيثمَ في خطابٍ // عليه تلتقي طَوْعاً بلادي

فيا لبيكَ يا قابوسُ إنَّا // بهيثمَ ابن طارقَ في سَدادِ

هو ابنُ العمِّ ليس أقل شأناً // هو ابن الضيغمِ الشهمِ المبادي

فتى تيمور طارق ذو المعالي // وعَضْدُ أبيكِ إذ كانَ التنادِ

لكمْ منَّا الولاءُ أخا شهابٍ // وأسعدَ في الرخاء والاشتداد

نُجَدِّدُ عهدنا في أنْ ترانا // بأمرِكَ قابضينَ على الزِّنَادِ

فخذنا حيثُ شئتَ تجدْ رجالا // عزائمُهُمْ تُفَتِّتُ للصِّلادِ

عمانيونَ نَسْمُ فوقَ جُرحٍ // وإنْ قد سأل من تحتِ الضِّمَادِ

عُمانيون نعشقُ للمعالي // ولنْ نأبه بأشواكِ القتادِ

عُمانيونَ أقسمنا بأنْ لا // نخون العهدَ مع أهلِ الرَّشادِ

نبايعكم على ما جاء منكم // وقد أشهدتمُ رَبَّ العبادِ

وندعو الله يحفظكم مقاماً // إلى العلياءِ دوماً في ارتيادِ

وفي سنوات ما بعد التقاعد استفاد الشيخ غصن العبري كثيرا من كبار الشعراء الذين التقى بهم وجالسهم، ومنهم من هو أكبر منه سنًّا، ومنهم من هو أصغر، ومما عرفته عن الشيخ غصن العبري أنه يحتفظ بقدر كبير من محاولاته الشعرية، رغم أن محبيه يحثونه على نشر هذه الأشعار والكتابات، ولعلَّ ذلك يكون قريبًا..