لمّا رأيت الأطباء وقد مشوا لي

غسان الشهابي

في الليالي العشر التي أقسم الله تعالى بها، صعدت روح الطبيب المصري محمد مشالي، أو من عُرف بـ"طبيب الغلابة"، والذي اشتهر بعلاج فقراء المرضى بسعر كشف بالغ الرمزية، بل إنه لا يساوي شيئاً تقريباً في هذا الزمان، في الوقت الذي كان يمتنع عن تحصيل هذه الأجرة الزهيدة (عشرة جنيهات مصرية) إن وجد أن الحالة التي أمامها تفاضل بين هذه الجنيهات ورغيف الخبز، بل وإنه كان يشتري الدواء للأسر التي لا يمكنها دفع ثمنه.

وليس غريباً ألا يُلتفت إلى هذا الطبيب النموذجي في حياته إلا من قبل الندرة من الإعلاميين في مصر، وليس غريباً أيضاً ألا يشيع اسمه بهذا الاتساع والرنين إلا بعد موته، فهذا دأب الأحياء عموماً، وخصوصاً في منطقتنا العربية.

وما أن أعلن عن وفاة مشالي حتى اشتعلت الغيرة الحميدة- ليس من الأطباء الآخرين ليسيروا على نهجه، بل– من المقيمين في الإعلام الاجتماعي ليقولوا إن مشالي ليس ظاهرة فريدة في الوطن العربي، وراحوا يعددون من هم مثله في هذا البلد وذاك، ولا أستغرب لو أنهم أسبغوا على الأطباء الآخرين بعضاً من الأساطير لتجعلهم في مقام مشالي أو أكثر، وفي المحصلة، فإن كل من خفف ألماً بنبل وشهامة وخصوصاً عن الطبقات الأكثر احتياجاً وهشاشة وضعفاً.

حسناً، تلك كانت المقدمة التي علينا أن ننثني بعدها لنقول إنه من الصعب، بل من الصعب جداً على الإنسان أن يعيش عيشة الدكتور مشالي، الذي "وفقه الله لخدمة الفقراء" إنسانياً، ولكن الطبيب أيضاً يحتاج أن يتجدد ويحضر المؤتمرات، ويناقش ويتواصل مع العلم الحديث، وعليه أن يعيش بشكل جيد لأن ليس كل الناس زهّاداً، وأن يقيم أسرة، ومتطلبات الحياة كثيرة. وهذا يعني ألا نجعل من المرحوم الدكتور مشالي عود ثقاب ذي حياة قصيرة تم الاكتفاء بتسليط الضوء عليها لأيام معدودات، وثم يطويها النسيان.

فلقد تغيرت مفاهيم العمل التطوعي والعمل الإنساني؛ إذ لم يعد يعني الانقطاع التام له، والانقطاع عن الدنيا من أجله، فليس المطلوب أن يصبح الناس أساطير، بل المطلوب أكثر أن يتضامنوا ويبدوا قدراً أعلى من الإنسانية تجاه بعضهم، فالتعليم والصحة من أجلّ الأمور التي يمكن أن تنتشل الفقيرة من السقوط بين كمّاشتي الجهل والمرض، وهما كفيلان للقضاء على أمم بأسرها وليس أفراداً وحسب.

لذا، في الجانب الصحي هناك إمكانيات كثيرة للتطوع ببعض الوقت من أوقات الأطباء لخدمة الحالات المستورة، بأن يتولى كل طبيب رعاية أسرة أو اثنتين رعاية طبية في جيدة، يتنازل عن ثمن الزيارة الكاملة، يتفق مع معمل أن يقوم بالتحاليل بأسعار مخفضة يسددها عنهم، يوفر أدوية مجانية من مسوّقي الأدوية ذوي الحقائب المنتفخة، يحشو سناً، يقطر عيناً، يرقع طبلة أذن، جلسة علاج طبيعي وعشرات المهمات التي يمكن أن يقوم بها الأطباء لو أرادوا أن يساهموا ويخرجوا زكاة طبّهم، ويمشوا في خدمة الفقراء كما فعل د. مشالي.