عبد الفتاح الزين يكتب: سيني كوريث.. زمالة ثقافية إنسانية تحت هذه السماء

1- المرحلة المسقطية

عبد الفتاح الزين[1]

[1] رئيس فضاء الوساطة والمنسق الوطني للشبكة المغربية للسوسيولوجيا.

أستاذ باحث بالمعهد الجامعي للبحث العلمي

د.عبدالفتاح الزين.jpeg
 

"وُهِب الإنسان ملكتان : القدرة والإيثار. فالقدرة تقوده إلى لقاء مصيره؛ والإيثار يدفعه إلى اقتسام أفضل ما فيه [وأجود ما لديه] مع الآخر"[2]

كانت أولى لقاءاتي مع سيني كورث[3] عند بدايات سنة 2005 بمسقط، ضمن شلتنا التي أسست "مجموعة الدائرة". وهكذا، تعمقت صداقتي معها خلال أول معرض للدائرة شاركتُ فيه مع أصدقاء عمانيين على رأسهم محور مجموعتنا : الأخ حسن مير (مدير رواق ستال Stal Gallery[4])، والأخ الشاعر والكاتب سماء عيسى، والفنان الأخ أنور سونيا[5] العائد إلينا من رحلته الوجودية التي كدنا نفقده فيها، والصديق عبد المنعم الحسني (الوزير الحالي للإعلام) الفنان والمختص في الإعلام والأستاذ بجامعة السلطان قابوس آنذاك ... وثلة أخرى من الشباب المتحلّق حول مجموعتنا واللواتي أو الذين بصموا الساحة العمانية والفنية بإبداعاتهن وإبداعاتهم ... والذين غنمت علاقاتهم الإنسانية باحتضانهم لي أنا الحديث عهد بعمان، وبهذه المدينة التي كنت أسميها "مُدُن في مدينة"[6] بالنظر لتباين أحيائها من حيث النسيج الحضري والبنية الاجتماعية للساكنة وفق سيرورة زحف العمران بين تلافيف الجبال المطلة على مطرح نواة المدينة وذاكرتها التاريخية بسوق الظلام العابق بنفحات أساطير سندباد البحري الذي ينتظر عودته صنوه السندباد البري على هذا الساحل الذي تحرسه قلعتا الجلالي والميراني الأثريتين.

IMG_1194.jpg
 

وقد جاءت مجموعة الدائرة نتيجة كيمياء علاقات إنسانية تحملها هموم ثقافية وفكرية وإبداعية تنتفي معها حدود المحتديات والتخصصات وحتى الجنسيات؛ حيث الفنون بمختلف تعبيراتها إلى جانب الأدب والعلوم الإنسانية والاجتماعية والشعر ... تلتقي في ممارسة ثقافية وإبداعية وفكرية توليفية نواتها الإنسان كوسيلة وكغاية. تجربة سندبادية شكل فيها السفر والترحال بمختلف تجلياتهما المادية واللامادية، الرمزية والعينية نسغها.

فكان هذا المعرض الأول الذي أصدر أول بيان للدائرة، والذي جاءت فيه الزميلة سيني كوريث بثقافتها النمساوية التي حملتها إلى لقاء ثقافات أخرى لتحط رحالها بسلطنة عمان وهي زوجة السفير النمساوي بعمان آنذاك. التقت بجيل اعتاد الرسم على القماش مع إدماج المهارات التقليدية مع التقنيات المعاصرة دون تنكر لأصالته، متعطش للتلاقح لكينونته السندبادية المنفتحة على الإنسانية الكونية في ترحال كنحل يرشف رحيق الثقافات لتلقيح الثقافة العمانية ورفدها، وبما تمثله مطرح العريقة كعلامة وفق موسوعة أرض عمان التي وقفت على عتبات دلالاتها اللغوية دون أن تحتفي بها وبعمق دلالاتها الأعلامية جغرافيا ومواقعيا كتراث وحضارة، هي نقطة الالتقاء التي يصعب فيها تحديد القدوم أو الإياب، مركز الالتقاء والعبور ... والذي لا يكونان دون عدوى جميلة وعذبة (=الحنين) ... نقطة الانتشار التي تربطك إليها عبر حبل سُرّي/سِرّي... حيث قدمت تجربتها في  هذا المعرض من خلال "تركيبات الفيديو والأساليب الإعلامية المتعددة وكانت نتيجة تقشعر لها الأبدان" كما كتبت باتريشيا كروف Patrica Groves في كتالوغ المعرض. وكنت قد شاركتُ إلى جانب المجموعة بتحريض من الصديق حسن مير منسق المعرض[7] بمساهمة كان عنوانها "دوائر الهوية"، والتي كانت عبارة عن تركيب انتقائي من الإبداع والفكر المغربيين جمع إلى جانب النصوص المكتوبة والموسيقية أو الغنائية لوحات تشكيلية. وكم تعبنا بحثا عن خط مغربي لإنجاز النصوص المختارة، والتي عنونتها "معلقات مغربية" ... لقد كانت سيني كورث إلى جانب أنس الشيخ (الزميل البحريني البوهيمي المتمرد الذي انصرمت علاقتي مع تدفق الزمن رغم لقاء وجيز عند إحدى زياراتي للمنامة ...) وشلة الدائرة خاصة الأخ عبد المنعم الحسني خلية نحل لإقامة المعرض وتجهيزه للافتتاح الوشيك.

DSC02355[1].JPG
 

خلال هذا الورش اكتشفنا بعضنا (سيني وأنا)، وكنا نستمر في حواراتنا باللغة الفرنسية بل إنها كانت تلجأ إلي لأساعدها في تمرير أو بناء وتوضيح بعض أفكارها سواء حول استغلال الفضاء وتوزيع الأعمال المعروضة أو في نقاشات أخرى جانبية تهم الفنون والثقافات ...  وهكذا انتقلت علاقتنا من لقاءات عابرة وبالصدفة في زحمة اليومي المسقطي إلى لقاءات منتظمة: أحيانا بشقتي في الخوير، وغالبا في إقامتها بستراباكَ Strabag؛ حيث توجد مجموعات شاليهات خشبية من طابق أرضي، والمنتظمة في كتل صغيرة متراصة وفق هندسة تحترم حميمية الجوار، وتخترقها ممرات قليلة الإنارة وضعيفتها، والمتوفرة على أهم أسباب الراحة والرفاه من صرف صحي وشبكة إنارة وماء، والمتميزة بخضرتها المنثورة  على شكل مربعات خاصة بين كتل الشاليهات، وتعتني بها الساكنة، وتُوظِّفها لمآرب شخصية كامتداد سكني يتفنن كل قاطن في رعايته والحفاظ على تنوعه ورونقه، ويجتهد بحسب في تنميقه حسب ذوقه. وقد كانت تشكل باحات للسمر تحت ضوء القمر.

إثر هذه الغنيمة الإنسانية التي وهبتها صداقتنا العمانية والتي كانت بدايتها ضيافة على مائدة الإبداع والفكر، انطلقت لقاءاتي بالزميلة سيني. كنا مداومين على المسامرة تحت ضوء القمر في صمت الليل البهيم الذي يلف الشاليهات، وسيني بابتسامتها الطفولية وقصة شعرها الرجولية ولثغتها النمساوية بلغة فرنسية أنيقة تتخللها مفردات إنجليزية تطرح السؤال تلو السؤال أو تسرف في الجواب ولا يوقف دفق جُملها وانسياب أفكارها إلا دخولها للشاليه بحثا عن حبة لبان تضعها في المبخرة الطينية الصغيرة الموضوعة على الطاولة؛ مبخرة على شكل مجمر فخاري صغير شكّلته أنامل عمانية من طين عمانية مُضمَّخة بحركات موروثة من عصور اللبان الذي جعل من عمان نقط التقاء وعبور، مركز الانتشار الذي قاوم أن يكون فقط هامشا لمركز قامت فيه خلافة أرادت فرض نحلتها دون نحل أخرى، مجتمع آمن بأن العلاقة مع المعبود اجتهاد دون إقصاء. كانت سيني عاشقة للبخور واللبان منه على الخصوص؛ حيث كانت كلما أتت بحبة أعادت على مسامعي روايات تاريخية حول كيفية استحلاب اللبان، وتجارته ومنافعه ... وخصوصا لطرد الحشرات التي تتجمع حول اللمبة العالقة أحيانا فوق طاولتنا أو الموضوعة فوقها حينا آخر أو أجدها منغرسة في أرضية الحديقة الخاصة بها في لقاءات تالية ... وأراها تضحك ملء فيها مُعلِّقة »لقد سئمت من هذه الحشرات، تأتي المسكينة لتلقى حتفها على حرارة الضوء، فلأطردها بالبخور حفاظا على حياتها، وراحة لنا ...y’en a marre de ces bestioles, les pauvres viennent mourir de la chaleur de la lumière, je les chasse avec l’encens pour préserver sa vie, et pour notre confort »، ومرّات تعود من الثلاجة بقنينة بيرة باردة نرطب بها حلوقنا من حرارة كثرة صبيب المفردات حول مواضيع تارة على شكل مستملحات، وأخرى على شكل نقاشات قد يُغني أحدها بيننا أفكار الآخر أو قد يعقب منتقدا أو شارحا ... ولكن في مودة واحترام للرأي. كثيرا ما كانت تستوقفني لتأخذ نقطا تخطها بسرعة في كتيباتها التي لا تفارقها ... ويستمر السمر مرات على صوت موسيقى هادئة أو غالبا تحت ضجيج الليل حتى ساعات متأخرة.

DSC02385[1].JPG
 

كنت عندما أصل إلى مسكنها، وأركن سيارتي في مكانها المعهود في الفضاء المظلم والصامت إلا من هدير محركها الذي ما أن يتوقف حتى يطبق عليك الصمت بكلكله، ثم أمشي ثقيل الخطو، تسبقني عينايا عملا بالحكمة المغربية والتي لها دون شك مقابل عماني أو عربي مشترك قد يكون الأصل المرجعي لها "الواحد هو اللي يعرف فاين كايحط رجليه = على الواحد أن يعرف أين يضع رجله؟". وما أن أطل عليها حتى تقف مرحبة وهي تقول " مرحبا يا صديقي=Bienvenu, cher ami". نادرا ما كانت جلساتنا تتم على مائدة عشاء لأننا الإثنان كنا لا نسرف في الأكل ليلا، ولكنها كانت لا تبخل في تزيين المائدة بما يساعد على جلسة قوامها الحوار وتبادل الأفكار ... ومن هذه الجلسات نشأت أفكار عديدة تتحول مع حضور الفنان حسن مير إلى أوراش ... وما أن تسمع سيني حسن ينطق بكلمة Proposal (بمعنى مشروع أو مقترح) حتى تبدأ سيني في التفكير بصوت عالٍ في المشروع. كانت تؤثث يَوْمِيَها بمشاريع متسلسلة ... كانت مقبلة على الحياة تقضمها بشراهة ولكن من خلال أوراش وبرامج وأعمال متواصلة.

عندما كنا نجتمع لماما كشُلَّة الدائرة خاصة في مرسم حسن مير بالخوير مع سماء وأنور سونيا حيث تجالسنا سيني أحيانا، كان اللقاء غالبا ما يفضي إلى إنجاز مشروع اختمر ... وهكذا، انبثقت ذات يوم فكرة معرض "متاهة فخLabyrinth Trap " والتي انبرت سيني لتنظيمها بالنمسا، وكان ذلك بمدينة سانت بولتن Sankt Pölten برواق مركز توثيق النمسا السفلى NÖ Dokumentationszentrum من 2 شتنبر (سبتمبر) إلى 1 أكتوبر 2005. ودامت رحلتنا إلى النمسا حوالي الأسبوع، عدت بعدها أنا وسماء إلى مسقط، وسافر حسن وأنر إلى ألمانيا لمعرض يخصهما.

خلال هذه الرحلة كانت إقامتنا بسانت بولتن، غير أننا كنا نتنقل بين هذه المدينة وفيينا. ما أن وصلنا إلى مطار فيينا حتى وجدنا سيني في استقبالنا. وكانت قد سبقتنا لإعداد المعرض والقيام بمختلف ترتيبات الافتتاح. وقد شارك في هذا المعرض إلى جانب مجموعتنا مجموعة أخرى من الفنانين بينهم عرب وأوروبيون. كان موضوع المعرض كما تصورناه وأشرفت على تنظيمه سيني هو متاهات فكر الغلاة من أي حدب وصوب وفخ الراديكالية والإقصاء وما يجر معه من إرهاب ودمار ... وكان اشتغالا من مقاربة تشكيلية وتجربة شعرية وكتابية كنت مع الأخ الشاعر سماء المدعوان للقيام بها[8]

لقد حفلت رحلتنا هذه بذكريات وثَّقها كل منا (خاصة أنا وحسن) سواء في صور أو على شكل تسجيلات فيديو، لازلت أحيانا أثلج بها لوعة الذكرى وحنين الذاكرة.

DSC02359[1].JPG
 

كان الافتتاح المعرض ناجحا لا فقط من حيث كمّ الحضور بل كذلك لنوعيته. وكان سيناريو الافتتاح والبروتكول المرافق له من استقبال للمدعوين، وخطاب الافتتاح مع استعراض اللوحات من طرف الجمهور في وقوف متأمل أو إلقاء نظرة عابرة، وتعليقات مختلفة بعص مسح بصري متفحِّص للوحة لتركيب فني أو فيديو آرت ... مع تحّلق أمام معروضة فنية أو بين شلة أصدقاء. كانت سيني متنقلة بين الزوار ودائما في كامل أناقتها دون بهرجة مع لون لباسها المفضل : الأسود. 

أذكر، خلال هذه الرحلة دائما سيني في الموعد واقفة في بهو الفندق تسألني عن سماء زميلنا الصوفي الذي يفرض زمنه الخاص في تؤدة وخطو رتيب يذكرك بوطء الراحلة على كثبان الرمال إما وحيدة أو في قافلة أو قطيع ... وكأنه مشي على وقع شبّابة حداة ماهرين ... كما يأتي مهرولا "أبو الثعابين"، تسبقه بشاشته وصخب ضحكه ... أمام سيني الغاضبة من هذا التأخر في الموعد ... أما أنا وحسن فنعلق ضاحكين بعد أن أشرح له ما قالته سيني بالفرنسية متوجهة إليّ. وكانت سيني قد أعدت لنا برنامجا مكثفا، شهد جلسة فكرية استضافتها جمعية عريقة نمساوية في أحد أحياء فيينا العتيقة، مع استجوابات أتذكر إحداها جيدا؛ إذ أدارها مهاجر مغربي نمساوي جاء للنمسا طالب علم، وأصبح مقيما هناك حيث كون عائلة مع زوجته النمساوية، وأنشأ مع مجموعة عربية من المهاجرين إذاعة تعرّف بالثقافة العربية وتنشد الإدماج والتسامح والتعايش مع احترام الاختلاف ... وهو ما كانت تناضل من أجل سيني، وهو ما يبدو من خلال عناوين أعمالها ... وفي صيبحة اليوم الثالث إن لم تخنني الذاكرة، جاءت فرحة مرحة كطفل حصّل هدية كانت من أحلامه، واخبرتنا بأن قناة تلفزية نمساوية خصت المعرض ببضع دقائق ضمن أخبارها الرئيسية وقت الذروة ... كما استضافنا زميل تونسي بمعرفة من سيني إلى كلية الفلسفة والعلوم التربوية بجامعة فيينا، وهو أستاذ الفلسفة هناك، ودعانا إلى محاضرة شاركت فيها إلى جانب سماء ... وكان ترجمانها لفائدة الحاضرين.

كان موقف سيني كل صباح في بهو الفندق لا يخلو من قفشاتنا التأخر وتوتر سيني المنضبطة بشكل صارم، غير اننا كنا دائما في الوقت سواء في زيارة مجاملة بدعوة من السفارة العمانية (وقد حضر معنا زوجها المرحوم الذي كان آنذاك سفيرا بالسلطنة)  أو إلى متحف أو كذلك إلى زيجة من فنانين نمساويين يقطنان إحدى الحصون العتيقة التي حولها لمزار فني ... كانت زيارة مفيدة ... انتهت باستجواب أجريته مع الفنانين وساعدتني سيني في ترجمته؛ حيث نشراه على صفحات شرفات بعد العودة إلى مسقط. واحتفت به معي في لقاءاتنا الليلية يإقامتها حيث ناقشنه وكأننا نقرأه لأول مرة ... لكننا كنا نجتر زيارات اليوم خلال تسكعنا الليلي في حوار سانت بولتن أو بفيينا عندما نبقى فيما بيننا.

Sans titre.jpg
 

كانت أيام جميلة تميزت بزيارتنا لبيت سيني الريفي العتيق الذي يعود لأسرتها. بيت يقع في طاحونة ماء من الطواحين التي كنت أتصورها في رواية دون كيخوطي للروائي الإسباني سيربانطيس ... كان يوما ممتعا قضيناه معها في عش ذاكرتها. روت لنا فيه ذكرياتها كسليلة لعائلة من بيت الهبسبوركَ Habsburger Haus مستعرض شجرة العائلة. كما قمنا بزيارة للبيت الذي تعتبر الطاحون جزءا منه أو هو جزء منها. وكان خلوتها وفضاء سفرها السحري والغوص في عوالم الإبداع. أتذكرها ليلة من الليالي التي وإن كان من أن حب الماضي والتيه به وبالذكريات الكبرى والجميلة لا يجا أن يجعلك سجين الذكريات والذاكرة على الخصوص، فإن هذه الجلسة لها حنين خاص لما أضفته سيني عليها من جمالية التحضير والإعداد والاستعداد المفاجئ لنا بوتيرتها وببساطتها المربكة مثل بساطة شخصية سيني الملتبسة بسوادها الدائم السرمدي الذي دونه لن تكون سيني التي نعرفها.

ثم بعدها بشهور جاء معرض الدائرة الثاني والذي كان موضوعه من اقتراحي تيمنا بتجربة الفن في ساحة جماعة لفنا بمراكش سنة 1969 كتمرد تعبيري[9] أبرز عن طاقات شباب حالم في فضاء عربي تفنن محللوه بالحديث عن العقم واليأس، وكان موضوع "الفن والمدينة". لقد كان تجربة ودعت عمان عائدا إلى المغرب على عذب نتائجها وجمالياتها.

كانت سيني كعهدنا بها محاولة توسيع تخوم التجربة، وتحويل أمواج المحيط الهادئ قبالة مرسى مطرح وأمام مدخل سوق الظلام إلى تجربة هادرة من خلال أمواج البلوتوث الإلكترونية إلى حاملة لأساطير سندبادية من الإبداع العماني لمواطنين اجتهدوا في إرسال أحسن اللقطات التي حاول محمد الزبير الاشتغال عليها في مؤلفه "عمان بلادي الجميلة"، وقد أبدعوا بحسهم البسيط والفني بالسليقة كنتيجة لتربية كان المرحوم قابوس مبدعها كأحد روافد إحماد ثورة انطلقت في الجنوب وكنا كطلبة مشاكسين نوقع بياناتها في كلياتنا، لكنني وقفت بعدها على فداحة الخطأ ...

كانت تجربة المسابقة التي نظمتها سيني وساعدتها في ضبطها ناجحة بكل المقاييس لأنها فتحت نقاشا جماهيريا وسط العمانيين حول وظيفية الهواتف ودورها في التواصل والتقاط درر الجمال وإنتاج المعرفة؛ إذ أن سيني اجتهدت لتدبير سيولة الصور التي كنا نعلقها على حائط قرب سوق مطرح ... وكان صديقنا كميل يلتقط لنا صورا أبدع فيها من خلال لمسته الفنية كما قال رولان بارت " ليست الصورة تذكارا، إنها نتيجة آلية، سيرورة كيميائية. إنها شاهدة على مرجع، إنها "ما كان" ولا يمكن إنكاره، أنه ما لا يمكن مقارنته بأي شكل "كلاسيكي" من التمثل"[10].

إنها زمالة إنسانية وثقافية تحت هذه السماء في مرحلتها المسقطية الجميلة والغنية بكل ما اكتسبته من صداقات عمانية لازلت أرعاها وترعاني. كانت سيني الصديقة أحد لآلئها إلى جانب زميلات وزملاء من عُمان كالفنانة بدور الريامي وموسى عمر، وآخرون وأخريات ... لهم كل الود والتقدير. وتستمر علاقتي بالعزيزة سيني التي سأطور معها تجارب بعد عودتي إلى المغرب خاصة مع إخوة عمانيين سواء من الدائرة وعلى رأسهم حسن مير (في تجربة الحق في المدينة والحقوق داخل المدينة)، وعبد المنعم الحسني (الذي شاركني معها تجربته الجديدة حول أندية المواطنة المدرسية)، والأخ سماء عيسى، والصديق الشاعر والصحفي محمد الحضرمي، و"[...] الذي يظهر ويختفي" ناصر المنجي ... وآخرون مثل خريجي جامعتنا المغربية محمد الخامس بالرباط سعيد الحارثي (المداوم على المغرب) والكاتبة المسرحية آمنة الربيع، والأخ سعيد الصقري المتخصص في الاقتصاد ... ولنا حول هذه التجارب حديث في المرحلة الثانية الرباطية!!

إنها تحية لصداقة إنسانية لسيني ولمن عايشها من شلتنا. فسيني اليوم تعيش تحت رعاية أختها الودودة تيريزا. أخذت أتسقط أخبارها إلى أن أجابتني يوما ابنتها لتطمئنني عل صحتها بعد أن انقطعت أخبارها عني بعد اتصالات كانت متقطعة لكن تنم عن تآكل ذاكرتها وصحتها ... سيني كما تبين صورها مبتسمة كعادتها، لقد فقدت النطق لكن بعينيها إشعاع الأمل في مستقبل إنساني ناضلت من أجله وناضلنا معها، ولا زلنا منذ لقائنا العماني الجميل ... كلنا أمل في إشعاع هذا الفكر والحلم الذي سقيناه في الدائرة وأزهر ستالا ... يسهر عليه الزميل حسن.

 

الهوامش والمراجع

[1] رئيس فضاء الوساطة والمنسق الوطني للشبكة المغربية للسوسيولوجيا.

[2] النص ترجمة شخصية لمقتطف من راويته (النسحة الفرنسية) Paulo Coelho, Comme un fleuve qui coule, Flammarion, Paris, 2006. وهناك نسخة إلكترونية لترجمة عربية غير موثّقة للنص الفرنسي تحت عنوان "كالنهر الذي يجري". ويمكن تحمبلها على الرابط التالي :

file:///C:/Users/User/Downloads/%D9%85%D9%83%D8%AA%D8%A8%D8%A9%20%D9%86%D9%88%D8%B1%20%D9%83%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%87%D8%B1%20%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%89%20%D9%8A%D8%AC%D8%B1%D9%89%20(1).pdf

[3] سيني اسمها الفني أما اسمها الحقيقي فهو بربارا كوريث Barbara Coreth، وللمزيد من الاطلاع على أعمال الفنانة سيني كوريث انظر موقعها على الرابط التالي : http://www.sinicoreth.at/

[4] اسم الرواق الذي يضم قاعة عرض إلى جانب استوديو وإقامة للفنانين وحديقة مع كل المرافق الخدمية مستلهم من قرية ستال التي تقع في دروب وادي بني خروص بولاية العوابي (محافظة الباطنة). وقرية ستال واحدة من أكبر قرى ولاية العوابي. وتتوسط قرى وادي بني خروص؛ حيث تبعد عن العوابي (مركز المدينة) بنحو 12 كيلومترا. وهي من القرى العريقة. وتوجد بها مآثر قديمة كبرج النجور الذي يتوسطها، وحصن "الصلوت" الذي يقع أعلى الجبل، وكذلك مسجد الصلت الأثري (واحد من ثلاثة مساجد تسمى مساجد الصفا) الموجود على تلة مطلة على القرية. كما توجد أسفل هذا الجبل قرية "الصلوت" التي أصبحت أطلالا. كما يوجد في قرية "ستال" عدد من البيوت الأثرية كبيت "الغراق" والذي يقدر عمره بأكثر من 200 سنة، وبيت "الصباح" المكون من طابقين، ويزيد عمره عن أكثر من 150 سنة، وبيت "المرامي"...  ونظرا لما تمثله السَّبلة (المجلس) من أهمية كبيرة في النظام الاجتماعي في السلطنة، فتوجد في "ستال" عدد من المجالس الأثرية كسبلة "السّحمة"، وسبلة "اللثبة" إضافة إلى المجلس الجديد بالقرية الذي بني حديثا، ولا تزال هذه المجالس موجودة ويستخدمها سكان القرية في حياتهم اليومية وفي المناسبات المختلفة. وتوجد بالقرية العديد من الشواهد الأثرية التي تشير إلى تاريخ الغني والقديم الذي لم تستوعبه موسوعة أرض عمان، كما غفلت عن تراث تاريخي وأثري عظيم يحتاج على الكتابة للأجيال المقبلة وللتاريخ. وقد شهدت القرية بروز عديد من الأئمة والعلماء والأدباء مثل بقية قرى وادي بني خروص ومن أبرز الأئمة الذين ولدوا في القرية : الإمام الصلت بن مالك الخروصي وهو خامس إمام في عمان ،كما ولد فيها الشيخ الفقيه منصور بن محمد بن ناصر الخروصي، والشاعر سالم بن بشير الخروصي، والشاعر الأديب سعيد بن محمد بن راشد بن بشير الغشري الخروصي المعروف ب "الستالي". ومن وحي هذا الإرث الثقافي وتيمنا به، تم اختيار هذا الإسم للرواق الذي أسسه حسن مير، والذي افتتح في مسقط خلال شهر دجنبر (كانون الأول/ ديسمبر) سنة 2013. وللراوق موقع يمكن زيارته على الرابط التالي :  https://www.stalgallery.com/

[5] انظر الاستجواب الذي أجراه الصحفي والشاعر الأخ محمد الحضرمي مع الزميل الفنان أنور سونيا ونشر على صفحات ملحق شرفات، والذي كنا نسميه "شيخ الفنانين العمانيين"، وكانت الشلة تنعته بأبي الثعابين ... لنكتة مغربية كنا نمزح بها في حميميتنا، والذي عاش تجربة مرضية مريرة عاد من الهند بعد علاجه ومدة نقاهة استشفائه إلينا ... وكنا نواسيه ونسانده ونتسقّط الأخبار عبر الواتساب ... ونتمنى له حياة هادئة مع مزيد من الإبداع.

[6] راجع كتابي "حصاد السنوات العمانية"، مؤسسة الرؤيا للصحافة والنشر، مسقط، 2006. وقدمت دعوتي من المغرب لتوقيعه بمقهى اللوتس في مجمع الخميس بلازا. للمزيد من المعلومات على الرابط التالي : http://www.alwatan.com/graphics/2006/05may/23.5/dailyhtml/culture.html

[7] أقيم المعرض بنادي القرم ضمن فعاليات مهرجان مسقط بتاريخ 13-24 فبراير 2005. انظر الرابط التالي : https://universes.art/ar/nafas/articles/2005/the-circle

[8] انظر كتالوغ المعرض "متاهة فخ"، صدر عن مؤسسة الرؤيا للصحافة والنشر، مسقط، 2005. أيام كان مقرها على الطريق الرابط بين مدينة السلطان قابوس والصاروج ... وقد سهرت على تصحيح النصوص، بينما سيني على الإخراج. وقد كانت جلسات عمل تتخللها توترات وقفشات لأن سيني كانت تحرص على إنجاز ألوان بعينها قد لا يتوفق الساهر على الإنجاز على الاستجابة لطلبات سيني ... وكنا نمزح مع زميلنا حاتم الطائي الساهر على المؤسسة بنوع من الحدب والاهتمام مع ابتسامتها الهادئة مما يجعلك غير قادر على المضي في توترك ... فأهدئ من روع سيني لننغمس في ضحك ينقلنا إلى جو من الحميمية الإنسانية التي تذيب أمواج الغضب ...

[10] راجع كتاب رولان بارت الذي نشر بعد وفاته تحت عنوان الغرفة المضاءة

Roland Barthes, La chambre claire. Note sur la photographie. Paris, Cahiers du Cinéma-Gallimard-Le Seuil, 1980.

تعليق عبر الفيس بوك