خمسة عقود تصنع نهضة عمان الحديثة


د. حامد بن عبدالله البلوشي
مستشار مسؤولية مجتمعية وتنمية مستدامة

أيام مجيدة تخلد العزم والإنجاز، الماضي والحاضر، الواقع والمستقبل، نورها سطع في عام 1970 ليؤذن ببداية عهد جديد لنهضة عُمان الحديثة والتي نعيش نسائم ذكراها الخمسين هذه الأيام، وعمان الغالية أكثر استشرافا واشرئبابا للمستقبل بصوت العزم وثبات المبدأ، لقد انطلقت مسيرة عُمان الحديثة قبل خمسين عاماً بقيادة جلالة السُلطـــان قــابــوس بن سعيد "طيب الله ثراه"، رجلُ السلام الذي جعل الأمنَ والسلامَ والطمأنينة ركيزة أساسية  لبناء هذا الوطن المبارك، وقاد بحكمة واقتدار دَفَّة النهضة العُمانية على مدى نصف قرن تجلت فيها مظاهرُ التطورِ والتقدمِ والازدهار في كافة مناحي الحياة، فالثالث والعشرون من شهر يوليو المجيد الذي تحتفل به السلطنة منذ العام 1970 وحتى الآن، هو يوم استثنائي في حياة العُمانيين، هو يوم عظيم اصطفاه جلالة السلطان قابوس بن سعيد طيب الله ثراه  لينقل عُمان  من مرحلة الركود إلى مرحلة النهضة الشاملة التي وضع أسسها وسهر على تنفيذها طيلة نصف قرن، ليعهد بعُمان غالية شامخة إلى عهد جديد ونهضة متجددة بقيادة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق – وفقه الله وسدد خطاه-.
إن أبناء عمان ليحفظون ويرددون ما قاله السطان الراحل طيب الله ثراه حين قال مخاطباً المواطنين عام 1970 "أيها الشعب.. سأعمل بأسرع ما يمكن لِجَعْلِكُمْ تعيشون سُعَدَاءِ لمستقبل أفضل وعلى كل واحد منكم المساعدة في هذا الواجب."  لقد كرست هذه المقولة في نفوس المواطنين منذ بداية فجر النهضة العُمانية، مبدأ عظيما من مبادئ التنمية المستدامة ألا وهو "مفهوم الشراكة بالمسؤولية" من أجل تحقيق النهضة الشاملة لصالح سعادة الجميع، وقد أوفى جلالته رحمه الله بوعده مكرساً حياته إلى لحظاته الأخيرة في خدمة عمان وشعبها، وها نحن اليوم نعيش هذه النهضة الشاملة في كل مجالات الحياة بفضل من الله عز وجل ثمَّ عزيمة جلالته "طيب الله ثراه" وتكاتف أبناء الوطن المخلصين الأوفياء من حوله الذين لبّوا النداء وكانوا أمناء على مقدرات الوطن ونَمَائه وسجل التاريخ ملحمة وطنية رائعة في التنمية والبناء بين القائد وشعبه على قلب رجل واحد وبنيان مرصوص وجسد واحد يشد بعضه بعضا .
إن ما حققته النهضة من منجزات على أرض عُمان الطيبة خلال نصف قرن من الزمن شاهدٌ قوي على العلاقة الوطيدة التي تجمع بين الوطن والمواطن فكلاهما وجهان لعملة واحدة نُقشت تفاصيلها على يد قائدٍ مُلهم ومُعلم مَاهر مُحب ومُخلص لوطنه وشعبه،  منجزات تكلم عنها القاصي والداني، وكُتبت فيها مؤلفات  في مختلف  المجالات التعليمية والصحية والبنية التحتية  والزراعة والاقتصاد والتراث والثقافة والسياحة وغيرها الكثير، والتي تُشكل في مجملها المشهد العُماني اليوم الذي نفخر ونعتز به جميعاً بين الأمم.
لقد كان أبناء الوطن خلال خمسين عاماً مضت  شركاء أساسيون في بناء هذا الوطن الغالي، وأسهموا بدور فاعل ومُؤثر في التنمية، ورفعوا اسم عُمان ورايتها خفاقة عالية في المحافل الإقليمية والدولية من خلال السياسة الحكيمة التي اختطها "المغفور له بإذن الله" باتزان وعقل راجح حكيم، كانت محط احترام وتقدير العالم أجمع.
لم يكن الثالث والعشرين من شهر يوليو عام 1970 سوى نقطة الانطلاق وإطلاق العنان لإرادة المواطن العُماني ليرسم أحلامه ويبني طموحاته ويخط مستقبله نحو حياة جديدة له ولأبنائه، فانطلق المجتمع بكل مكوناته وأطيافه لتحقيق رؤيتهم التي طالما حَلِمُوا بها وسَعُوا إليها، تقودها رؤية واضحة وتوجيهات حكيمة من القائد الباني تستند إلى عزيمة المواطن العُماني التي لا تُقهر،  حتى تحققت هذه المنجزات على امتداد هذه الأرض الطيبة التي تتطلب منا جميعا المحافظة عليها وهو ما أكد عليه  جلالته "طيب الله ثراه" خلال الانعقاد السنوي لمجلس عمان 2010م. حيث قال: "نعم لقد تم إنجاز نسبة عالية من بناء الدولة العصرية حسبما تَوَسَّمْنَا أن تكون عليه بفضل الله عز وجل وذلك من خلال خطوات مدروسة متدرجة ثابتة تبني الحاضر وتُمهد للمستقبل".  وأضاف "لم نقصد بالإشارة إلى ما سبق مجرد التذكير بالمنجزات التي تمت على أرض هذا الوطن العزيز فهي ماثلة للعيان ولا تحتاج إلى أي برهان وإنما أردنا أن نُؤكد على أهمية المحافظة عليها وصونها وحمايتها لكي يتمكن الجيل القادم والأجيال التي تأتي من بعده من أبناء وبنات عُمان من مواصلة المسيرة الخيرة برعاية المولى عز وجل وتوفيقه وعونه". لذلك نحن اليوم أمام رؤية استباقية مستدامة استشرف بها رحمه الله المستقبل بحكمة ومسؤولية تشاركية بين الحكومة والشعب، ساهمت في رسم معالم المستقبل الذي نعيشه الآن.

المواطن غاية التنمية وثروتها الحقيقية
"إن التنميـة ليسـت غايـة فـي حـد ذاتهـا، وإنمـا هـي مـن أجـل بنـاء الإنسـان الـذي هـو أداتهـا وصانعهـا، ومـن ثـم ينبغـي ألا تتوقــف عنــد مفهــوم تحقيــق ثــروة ماديــة وبنــاء اقتصــاد متنــوع، بــل عليهــا أن تتعــدى ذلــك إلــى تكويــن المواطــن القــادر علـى الإسـهام بجـدارة ووعـي فـي مسـيرة النمـاء والبنـاء الشـامل وذلـك مـن خـلال تطويـر قدراتـه الفنيـة والمهنيـة وحفـز طاقاتـه الإبداعيـة والعلميـة، وصقـل مهاراتـه المتنوعـة، وتوجيـه كل ذلـك نحـو خدمـة المواطـن، وسـعادة المواطنيـن". هذا ما قاله المغفور له بإذن الله جلالة السلطان قابوس بن سعيد في خطابه السامي في مؤتمر الرؤية المستقبلية للاقتصاد العماني (2020) بتاريخ 2 يونيو 1995م.
لقد أعطى جلالته رحمه الله الأولوية لبناء المواطن العُماني والنهوض به وتسليحه بالعلم والمعرفة وتثقيفه وتدريبه وتأهيله والارتقاء به فهو محور التنمية وهدفها وصانعها، كما حظي بالعناية والاهتمام في جميع السياسات والبرامج والخطط التنموية. لتمكينه من استغلال الفرص المتاحة لخدمة وطنه والمشاركة الفعالة في البناء والتنمية.  حيث قال "طيب الله ثراه" "إن ما تحقق على هذه الأرض الطيبة من منجزات حضارية في مجالات عديدة تهدف كلها إلى تحقيق غاية نبيلة واحدة هي بناء الإنسان العُماني الحديث المؤمن بربه، المحافظ على أصالته، المواكب لعصره في تقنياته وعلومه وآدابه وفنونه، المستفيد من معطيات الحضارة الحديثة في بناء وطنه وتطوير مجتمعه".
واثقة الخطى ...السلطنة تحقق التنمية المستدامة
لقد تجلت التنمية المستدامة في السلطنة منذ فجر النهضة الحديثة لعمان فالاهتمام بالصحة والتعليم والبنية الأساسية والعدل والتنمية والاقتصاد والبيئة والتعليم وغيرها كانت في صلب اهتمامات السلطنة مُنذ انطلاقة نهضتها، ولعل إعلان الأمم المتحدة عــن أجنــدة وأهــداف التنميــة المســتدامة 2030 فـي سـبتمبر 2015  مثل فرصة لمراجعة ما تحقق من إنجازات ومعايرتها بالتوجهات العالمية وصولا إلى أفضل الممارسات في هذا الشأن، حيث أشارت التقارير الطوعية التي قدمتها السلطنة في هذا المضمار إلى أن الجهود – ولله الحمد جاءت- مبشرة فقد حققت السلطنة بنجاح العديد من محاور الأجندة الأممية بل وتجاوزت في كثير من الأحيان تلك المحاور التي وضعت لقياس التنمية المستدامة وأن ما لم يتحقق من تلك الأهداف – وهي قليلة-  فهي في طورها للتحقق، واستكمالا لمزيد من النجاح جاءت رؤية عُمان 2040، لتؤكد على أن السلطنة لا تعمل بدون خطط بل إن طريقها واضح ومدروس فهي تضع السياسات والمبادرات والبرامج الكفيلة بتحقيق الأهداف المنشودة، والوصول بعمان إلى دولة عصرية حديثة.
ويأتي حرص السلطنة على تحقيق أهداف التنمية المستدامة ونشر الوعي بأهميتها ليقوم كل فرد من أفراد المجتمع بواجبه نحو وطنه ومجتمعه، والعمل الجماعي المشترك بين الحكومة وأفراد المجتمع حتى أصبحت المؤسسات الحكومية وشركات القطاع العام بالإضافة إلى المؤسسات والشركات الخاصة في السلطنة أكثر استعدادا لتحقيق التنمية المستدامة من خلال المجالات الإستراتيجية التي تسهم فيها كالصحة والتعليم وتشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة؛ والأنشطة الرياضية؛ والسلامة؛ والبيئة، بالإضافة إلى برامج ومبادرات ومشروعات دعم المجتمع بكافة أطيافه، ويتطور هذا الدور باستمرار لمواكبة التغيرات، والاهتمام المتزايد بمراعاة البعد الاجتماعي في عملية التنمية.
وهكذا سارت التنمية المستدامة بخطى حثيثة ورؤى متطورة لتحقيق العديد من الأهداف والإنجازات وربطها بسياسة التخطيط والتنمية بما يحقق احتياجات وتطلعات الحاضر دون الإخلال بالقدرة على تحقيق احتياجات ومتطلبات المستقبل حيث اعتمدت السلطنة في سعيها لتحقيق أهداف التنمية المستدامة على منهج الشراكة المجتمعية الواسعة على المستويين الوطني والمحلي، ضمت مختلف شركاء التنمية من الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني والشباب وغيرهم، وذلك لضمان الملكية المجتمعية لأجندة التنمية عبر إتاحة الفرصة لشرائح المجتمع المختلفة للمشاركة الفاعلة في جهود التنمية المستدامة.  
ومازال الطريق لتحقيق هذه الأهداف مستمرا وطويلاً، وأن تحقيق الالتزامات مرهون بالقدرة على مواجهة التحديات، وهو ما يتطلب جهداً دولياً وإقليمياً مشتركاً  لمواجهتها، وتسعى السلطنة حثيثاً لتحقيقه، مستفيدة من العلاقات الخارجية المتينة التي تربطها بمحيطها العربي والإقليمي والدولي، ولذا فإنَّ مانشاهده اليوم من منجزات ومكتسبات ونهضة شاملة  لم تأت مصادفة ولم تكن بالمهمة  السهلة واليسيرة  لكن إرادة وعزيمة القائد ذللت كل الصعوبات وتجاوزت كل التحديات والعقبات بهمة لاتعرف الكلل والملل، حيث قال جلالته "طيب الله ثراه" في خطابه بمجلس عُمان عام 2012م. "وقد تمكنت خُطط التنمية السابقة بحمد الله مع اتساع أرجاء عُمان، وصعوبة تضاريسها الجغرافية من إنجاز الكثير في هذا المضمار، الأمر الذي غير وجه الحياة في هذا الوطن وسهَّل تنفيذ برامج التنمية الاجتماعية والبشرية وتوصيل الخدمات بشتى صنوفها وأنواعها إلى المواطنين حيثما كانوا وأينما حلوا ".
إن الحديث عن النهضة ومنجزاتها ومكتسباتها خلال نصف قرن يطول كثيرا ولا يمكن اختزاله في مقال، فالإنجازات لا ترصدها الكلمات فقط فالشواهد كثيرة ومعبرة والمتأمل يدرك حجم المنجزات ووعورة الطريق حتى تلمست عمان طريق النهضة سعيا لبناء دولة عصرية حديثة في مختلف المجالات.

على العهد ماضون
ونحن من بعدك يا باني نهضة عمان الحديثة نقول بأن الأمانة التي عهدت بها الى خليفتكم على هذا الوطن قد جاء كما توسمتموه حين أوصيتم "وذلك لما توسمنا فيه من صفات وقدرات تؤهله لحمل هذه الأمانة، وإننا إذ نضرع إلى الله العلي القدير أن يكون عند حسن الظن الذي دعانا إلى اختياره والثقة التي دفعتنا إلى تقديمه"  فتوسمك وحسن ظنك وثقتك في محلها فهو خير خلف لخير سلف  وقلوب العمانيين تنبض لك حباً وعرفاناً فإن رحلت عنا جسدا فستبقى آثارك ومنجزاتك شاهدة وستظل عمان والعمانيون يحتفلون بالأيام المجيدة لعمان ناثرين في العالم عطرها وطيبها، رحمك الله رحمة واسعة وأسكنك فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
وهاهي النهضة العمانية المتجددة تمضي بخطى ثابتة بكل ثقة واقتدار  نحو المستقبل تحت القيادة الحكيمة لمولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان  هيثم بن طارق المعظم "حفظه الله ورعاه"  وسدد على طريق الخير خطاه ، مجددين  له  العهد والولاء والطاعة– كما أوصانا جلالته رحمه الله -  بقوله (فإننا ندعوكم جميعاً إلى مبايعته على الطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وأن تكونوا له السند المتين والناصح الأمين معتصمين دائما تحت قيادته بوحدة الصف والكلمة والهدف والمصير) ، مؤكدين له وعداً وعهداً، أن نبقى أوفياء لمقامه السامي وأن نمضي قدماً خلف قيادته الحكيمة، وفي ضوء توجيهاته السديدة من أجل هذا الوطن الأبي العظيم ولتبقى راية عمان خفاقة قوية عزيزة منيعة خلف قيادته الحكيمة.

تعليق عبر الفيس بوك