الاستقلال في تحري رؤية الهلال

 

بدر بن خميس الظفري

يطلُّ علينا في نهاية شهر شعبان وشهر رمضان وشهر ذي القعدة من كل عام هجري، على شاشة تليفزيون سلطنة عُمان الوجهُ السَّمح للزميل الدكتور سيف بن سالم الهادي، وهو يُقدِّم برنامج استطلاع أهلة الشهور الهجرية، تزامنًا مع اجتماع اللجنة الرئيسية لاستطلاع الأهلة في محافظة مسقط، واللجان الفرعية الأخرى في محافظات السلطنة كافة.

ويستضيف الهادي في برنامجه إحدى الشخصيات الفلكية ليتحاور معها في مواضيع عدة، تتعلق بكل ما هو جديد فيما يخصُّ علم الفلك والحسابات الفلكية، والتي أثبتت دقتها المتناهية في تحديد الظواهر الفلكية من خسوفٍ للقمر وكسوفٍ للشمس وظهورٍ للكواكب، حتى إنه يمكن لعلم الفلك أن يحدد ظاهرة فلكية معينة، وموعد حدوثها وفترة وقوعها، بعد عشر سنوات من الآن، وهو أمرٌ يؤكد ضرورة الالتفات لهذا العلم والاهتمام به. وكذلك يضيف الهادي شخصية دينية تتحدث عن كيفية استعداد المسلم لصيام شهر رمضان وعيدي الفطر والأضحى والأحكام المتعلقة بهما.

ويتواصل البرنامج مع اللجان الفرعية في محافظات السلطنة المختلفة؛ حيث يتحدث رئيس كل لجنة فرعية عن الاستعدادات التي تقوم بها كل محافظة في كافة ولاياتها، وفرق التحري الموزعة في أماكنَ، رؤيةُ الهلال منها ممكنة وواضحة، في بثٍّ مباشر وشفاف من مواقع تحري الرؤية في بعض الأحيان. وكذلك يبث البرنامج تقريرا فلكيا مفصلاً تعده وزارة الأوقاف والشؤون الدينية عن حالة الهلال وغروبه وطلُوعه واقترانه مع الشمس.

وفي الوقت الذي تتخبَّط فيه دولٌ في رؤية هلالها؛ فتعلن ثبوت الرؤية رغم إجماع علماء الفلك على استحالة رؤية الهلال في تلك الليلة، معتمدة على موقع واحد أو موقعين لتحرِّي الأهلة، وتعتمد دول أخرى على غيرها في تحرِّي أهلتها، تقوم السلطنةُ باعتماد منهج علمي مستقل دقيق يستندُ إلى علم الفلك اليقيني في إمكانية رؤية الهلال من عدمه، فإذا ما قَرَّرَ علمُ الفلك عدم إمكانية الرؤية، يعلـَن أن الشهر سيكون ثلاثين يوما، ولا تنعقد لجنة تحري الهلال احتراما للعقول واتباعا للمنطق، فكيف يقوم الناس بالبحث في السماء عن شيء غير موجود؟!  أما إذا قرر علم الفلك إمكانية رؤية الهلال ولو بصعوبة، تقوم السلطنة بتحري رؤية الهلال اتباعا لأمر الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام: "صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته فإن غُمّ عليكم فاقدروا له"، وفي رواية أخرى: "فأتموا العدة ثلاثين يوما".

إنَّ تبني السلطنة علم الفلك وسيلة لتحري الهلال ينبعُ أولا من كتاب الله -عز وجل- الذي أكد على دقة مسار الشمس والقمر، وأنهما لا يمكن أن يختلفا أو يتصادما، يقول تعالى: "والشمسُ تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمسُ ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون"، ويقول تعالى: "الشمس والقمر بحسبان"، وينبع ثانيا من انفتاح الفكر الديني في عُمان على مدى تاريخه لكل ما هو جديد، وعدم إغلاق الباب أمام العلوم المادية بكافة أنواعها لتسهم في تطور حياة الإنسان الدنيوية، بل وحتى فيما يتعلق بحياته التعبدية كأوقات دخول تأدية العبادات وخروجها، في الوقت الذي ترفض فيه بعض المناهج الفكرية الدينية في دول أخرى مسلمات علمية مشاهدة وقطعية مثل كروية الأرض ودورانها.

لقد كان قرار السلطنة العام المنصرم بالاستقلال في تحرِّي هلال شهر ذي الحجة وتشكيل لجنة لذلك نابعا من قناعة تجدُّد رسوخها أنَّ الرؤية العُمانية للأهلة هي من أصح الرؤى على مستوى العالمين العربي والإسلامي؛ وذلك بشهادة المؤسسات الفلكية المتخصصة، وفي مقدمتها مركز الفلك الدولي، الذي أكد أنَّ نسبة الخطأ في الرؤية العمانية للأهلة تكاد تصل إلى الصفر، ومن هنا فإنَّ نشر التجربة العمانية في مجال تحري الأهلة أصبح ضروريا في ظل وجود تخبط واضح في العالم الإسلامي في هذا المجال؛ ذلك أن الأهلة ورؤيتها تعتمد عليها صحة العبادات التي يؤديها المسلم من صيام وصلاة وذبح للأضاحي وقضاء للعبادات الفائتة، وقبل ذلك فريضة الحج التي يتكبد فيها المسلم المشاق الكثيرة، وعناء السفر والأموال الكثيرة من أجل الوصول إلى الديار المقدسة، وقد أوضح الله ذلك حين خاطب نبيه قائلا: "يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج"، فليس من المعقول أن يشك الحاج في صحة حجه بسبب أن رؤية الهلال لم تكن دقيقة، خصوصا إذا كانت هناك دراسات فلكية عديدة تُجمِعُ كلها على أن الهلال لم يكن موجودا في السماء تلك الليلة بسبب غروبه قبل الشمس.

تعليق عبر الفيس بوك