تحديات التعليم عن بُعد في ظل "كورونا"

 

د. سلمى الطائي

ألقت أزمة الفيروس اللعين "كورونا" بظلالها على كافة القطاعات وخاصة التعليم منها؛ إذ دفعت المؤسسات التعليمية لإغلاق أبوابها؛ وذلك للتقليل من فرص انتشاره، وهو ما أثار قلقا كبيرا لدى العاملين بهذا القطاع، وكذلك الطلاب المتأهبين لتقديم امتحانات يعدونها مصيرية خاصة من هم في المراحل النهائية من دراستهم في ظل أزمة قد تطول.

وتزامَن الحديثُ عن استخدام التعلم عن بُعد لمواصلة مسيرة التربية والتعليم في ظلِّ خَوْض البشرية معركة شرسة ضد كائن مجهري فرض تأثيره على جميع مناحي حياتنا، ويكمُن خطره الحقيقي في أساليب انتقاله، والتي تكون في أغلب الحالات عن طريق التواصل المباشر مع المريض أو ملامسة الأسطح الملوثة، مما ألزم صانعي القرار لاتخاذ القرار الأصعب والمتمثل بمنع التجمعات واللقاءات والمناسبات الاجتماعية المحصورة في الأماكن المحددة جغرافيا، وتُعد المؤسسات التعليمية أحد أكبر التجمعات في عالمنا المعاصر.

لذلك؛ تسابقت الشركات والمؤسسات التي تقدم خدمات تعليمية وتربوية إلى وضع إمكانياتها للتربويين للاستفادة من برامجها وتطبيقاتها الإلكترونية في دعم التعليم في حالات الطوارئ.

وبعد أن أصبح التعليم عن بُعد هو الحل الوحيد في مثل هذه الضروف؛ فمثلا قامت شركة "جوجل" بإتاحة بعض تطبيقاتها مجانا للمدرسين والباحثين والمحاضرين والتربويين، وقامت كذلك عدد من المكتبات العالمية بإتاحة خدمة تحميل وتصفح الكتب الإلكترونية مجانا للطلاب والباحثين والتربويين، وبدأ الأساتذة والتربويون بالتواصل مع طلابهم في محاولة منهم لاستمرار العملية التعليمية في هذه الأزمة.. إنَّ استخدام التعليم الإلكتروني يحتاج إلى بنية قوية ماديا وبشريا، ويحتاج نظاما تعليميا يدعم ذلك الأمر، وهذا ما أكدته العديد من الدراسات، فإنَّ مُتطلبات استخدام ونجاح التعليم الإلكتروني تتلخص في توفير بنية أساسية متينة، وموارد وكوادر بشرية مدربة، وجاهزية لاستخدام هذا النوع من التعليم.

وهناك شروط ومزايا يجب أن تتوافر لتطبيق هذا النوع من التعلم؛ ومنها:

أولا: دعم عملية الاستيعاب؛ وذلك من خلال إمكانية تسجيل الفصول الدراسية وقيام الطالب بمشاهدة المحاضرات أكثر من مرة حتى يستوعب المعلومات بشكل كامل، وهذا ما لا يتوافر في الفصول الدراسية التقليدية؛ حيث تبدأ المحاضرة وتنتهي في وقت معين، وإذا لم يتمكَّن الطالب من حضورها فليست هناك إمكانية بالتأكيد لتكرارها مرة أخرى، بعكس التعليم عن بُعد الذي يُمكِّن المتعلمين من الوصول إلى المحتوى التعليمي في أي مكان وفي أي وقت؛ مما يُساعد الطلاب بشكل أكبر خلال فترات التحضير والإعداد للاختبارات الدراسية.

ثانيا: توفير الوقت وانخفاض الكلفة؛ حيث أسهم التعليم عن بُعد في خفض الوقت اللازم للتعلم بنسبة كبيرة وهو ما يرجع إلى إلغاء الوقت اللازم لعملية الانتقال للمقر التعليمي والعودة منه إلى المنزل، كما أنه يُسهم في تخفيض التكاليف المالية بسبب عدم وجود تكلفة للانتقال وعدم تكبد نفقات الإقامة والانتقال من مدينة أخرى داخل الدولة نفسها أو من دولة الى دولة أخرى.

ثالثا: سهولة الوصول للمحتوى التعليمي؛ فالتعلم عبر الإنترنت هو طريقة مناسبة للأغلبية؛ حيث يمكن للباحثين ولموظفين والطلاب الحصول على دورات ومحاضرات في المجالات التي يرغبون فيها، وذلك في الوقت الذي يناسبهم. فالتعليم عن بُعد يتميز بمرونة الوقت، على عكس الفصول التقليدية، فمن خلال التعليم عن بُعد يُمكن للعديد من الأفراد الحصول على الدورات والدرجات العلمية من خلال حضور المحاضرات على الإنترنت في عطلات نهاية الأسبوع أو في المساء بعد انتهاء أوقات العمل. كما يعمل التعليم عن بُعد على كسر حاجز الحدود؛ حيث لم يعد يتعين على الطلاب الانتقال من دولة إلى دولة أخرى للحصول على درجة علمية أو المشاركة في دورة تعليمية معينة، وحتى ربات البيوت أصبح بإمكانهن التعلم أو أخذ كورسات من خلال التعليم الإلكتروني.

رابعا: تعزيز قدرة وفاعلية المعرفة، من خلال السلاسة في الوصول إلى كمية هائلة من المعلومات فنحن نستخدم الإنترنت الآن لقراءة الأخبار ومشاهدة برامجنا التليفزيونية المفضلة وحجز المواعيد والتسوق وغير ذلك الكثير، بالنظر للراحة التي أضافتها التكنولوجيا إلى حياتنا اليومية.

خامسا: حماية البيئة؛ فنظرًا لأنَّ التعليم عن بُعد هو وسيلة غير ورقية للتعلم، فإنه يحمي البيئة من خلال عدم استخدام واستهلاك عدد كبير من الأوراق، مقارنةً بأشكال التعليم التقليدي. فضلًا عن أنه ووفقًا للدراسة التي أُجريت على دورات التعليم الإلكتروني، وُجِدَ أن برامج التعليم عن بُعد تستهلك طاقة بنسبة أقل مقارنة بالدورات التعليمية التقليدية القائمة على التواجد في الجامعات أو المؤسسات التعليمية؛ وبالتالي فإنَّ التعليم عن بُعد هو وسيلة صديقة للبيئة مقارنة بأنماط التعليم التقليدي لما يوفره من عوائد بيئية إيجابية.

وبما أن للتعليم عن بُعد إيجابيات عدة، فإن هناك سلبيات على هذا المستوى، يمكن تلخيصها فيما يلي:

1- كل طالب يمتلك قدرات تعليمية مختلفة عن الآخر فلكل منهم خصوصيته، وبالتأكيد فإن نجاح العملية التعليمية يعتمد على فهم كيفية تعلم الطالب بشكل أفضل من خلال الأدوات المناسبة له؛ حيث لا يملك جميع الطلاب في نفس الصف نفس القدرات؛ لذلك سيكون من الصعب على المحاضر الاهتمام بالاختلافات بين الطلاب بشكل فردي واختيار الأنشطة والطرق المناسبة التي يتفاعل بها الطلاب مع المحتوى ويتعلمونه من خلال استخدام هذه الإستراتيجية.

2- معظم الطلاب لم يعتادوا بعد على استخدام هذا النوع من التعليم الذي يتطلب منه انضباطاً ذاتيًّا، وذلك نظراً لعدم تقديم برامج توجيهية ودورات تدريبية لإعداد الطلبة قبل البدء بتطبيق هذا النظام، بحيث يجد الطلاب صعوبة في التركيز عندما يكونون محاطين بمشتتات داخل المنزل، ومع عدم وجود المدرس أو الزملاء للتفاعل وجهاً لوجه داخل غرفة الدرس، فإن فرص التشتت وفقدان المسار الزمني للمواعيد النهائية تكون عالية.

3- تُعد المصداقية تحديا رئيسيا في التعليم عن بُعد؛ حيث سيكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، التحكم في السلوكيات السلبية مثل الغش، فيمكن لأي شخص القيام بمشروع بدلاً من الطالب الفعلي نفسه، لذلك لن يكون من السهل تقييم الطالب من خلال هذه الإستراتيجية.

4- الإنصاف هو أكبر عقبة في التعلم عن بُعد بالطبع لا ينطوي التحول من التعليم التقليدي إلى التعليم عن بُعد على التحديات التقنية فحسب، بل التحديات الاجتماعية والمادية أيضاً، على افتراض أن كل طالب لديه التكنولوجيا اللازمة والوقت والحافز والدعم للمشاركة في التعلم عن بُعد يفتقد للعدالة، فلا يزال هناك تفاوت كبير من حيث الدخل والمستوى التعليمي للوالدين، ومن الممكن أن لا يمتلك كل منزل أجهزة كمبيوتر متطورة أو إنترنت عالي السرعة.

5- عدم قدرة أولياء الأمور على المشاركة في تعليم أبنائهم من خلال استخدام هذه الإستراتيجية التي تحتاج تدريباً وإعداداً لأولياء الأمور؛ وذلك لتمكينهم من المشاركة وتفعيل دورهم في استمرارية العملية التربوية قبل تبني تطبيقها، وهذا بالتأكيد يمثل تحدياً حاسماً آخر، خاصة للطلاب في الصفوف الأساسية الأولى؛ حيث يحتاج الطلاب الأصغر سناً إلى الكثير من المساعدة، حتى الكبار المتمرسين في التكنولوجيا يمكن أن يجدوا هذا الأمر صعباً.

ومن البدائل المتاحة للتعليم عن بُعد لاحتواء أزمة "كوفيد 19":

* "المواقع الإلكترونية" للمدارس؛ حيث تدار عملية التعليم عن بُعد باستخدام موقع إلكتروني لكل مدرسة، ويلزم أن يكون الموقع مبرمجا ليتوافق مع اجهزة الحاسوب بالإضافة للأجهزة الخلوية، وأن يكون مجهزا لاستيعاب المواد التعليمية التي يحضرها المدرس بطرق سهلة، وأن يسمح بالحوارات التفاعلية مع الطلاب والمحتوى التعليمي والمعلم. وعلى الرغم من أن هذه البيئة تمثل الظروف الأنسب والأمثل لإدارة تعليم إلكتروني ناجح، إلا أن ندرة المدارس المجهزة بذلك تجعل منه محدودَ الاستخدام.

* استخدام فيسبوك؛ بحيث يُدار التعليم عن طريق المعلمين انفسهم باستخدام وسيلة موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك. وهذه الطريقة تعتبر الأنسب للظرف الراهن؛ كونها تسمح بأن تدار العملية التعليمية للصف الواحد في المدرسة الواحدة بجميع شعبه ولجميع معلميه.

* استخدام واتساب؛ بحيث يدار التعليم عن بُعد عن طريق المدرسين أنفسهم باستخدام وسيلة موقع التواصل الاجتماعي "واتساب" هذه الطريقة مناسبة للعمل مع طلاب الصفوف الأولية؛ حيث يتطلب العمل إدارة العملية من قبل المدرس أو المدرسة بإنشاء مجموعات واتساب تشمل طلاب الشعبة الواحدة أو جميع شعب الصف الواحد في المدرسة الواحدة التي يدرسها، ويتشارك مع باقي مدرسي الفصل في الإشراف على مجموعة "واتساب"، بعرض الفيديوهات والرسائل المرئية والصوتية لتشمل المادة الدراسية وأوراق العمل وغيرها، يجب أن يقتصر الإرسال على المدرسين، ويسمح بالنقاش والتفاعل من قبل الطلاب وترسل الملاحظات والواجبات بعد تنفيذها على الخاص لكل مدرس.

وهناك العديد من المهارات الأساسية التي يحتاجها الطلاب لتساعدهم على استخدام أدوات التعلم عن بُعد بالصورة الصحيحة:

أ- المهارات الأساسية لاستخدام الأجهزة الرقمية؛ مثل: تشغيل الأجهزة وإغلاقها، وتثبيت التطبيقات وإدارتها، والقدرة على تسجيل الدخول للتطبيقات التعليمية وتتضمن إنشاء مستخدم جديد وإدارة الحساب الشخصي والانضمام إلى مجموعات التعلم ومشاركة المصادر التعليمية وحفظها، إضافة إلى التعامل مع ملحقات الأجهزة الرقمية كالسماعات، وأجهزة تسجيل الصوت والصورة.

ب- مهارات البحث عبر شبكات المعلومات الرقمية (الإنترنت)؛ وتتضمن قدرتهم على الوصول للمواقع الإلكترونية المناسبة للتعليم، والقدرة على البحث عن المعلومات المطلوبة ومعالجتها أو تخزينها وحفظها، مع قدرتهم على التمييز بين المعلومات الصحيحة والخاطئة.

ج- مهارات التعلم الذاتي لكي يكون الطلاب قادرين على التعلم وحدهم في ظروف انقطاع التعليم.

د- مهارات حلّ المشكلات، وتعد هذه المهارات ذات أهمية؛ كونها تساعد الطلاب على التعامل مع المواقف غير الاعتيادية (المستحدثة) التي تواجههم، والعمل على تطبيق إستراتيجيات لحلّ تلك المشكلات.

هـ- مهارات "مواجهة الأزمات" لكي يكون الطلاب قادرين على استيعاب حقيقة المواقف التي تحدث بصورة طارئة، وأخذها على محمل الجدية لا الاستهتار، والقدرة على التصرف في الأوقات الحرجة، وأن يكونوا قادرين على مواصلة تعلمهم في فترات الانقطاع، والاعتماد على أنفسهم.

ليس من السهل القول إنَّ مرحلة التعليم عن بُعد في زمن كورونا لا تواجه مشاكل وتحديات كبيرة، فإلى الآن في بعض الدول التي أطلقت برنامج "الدراسة عن بُعد" بدأ جدل واسع لدى الأوساط الأسرية، حول وضع العائلات غير المجهزة، أو التي ليس لديها اتصال إنترنت قوي بما فيه الكفاية، كما بدأت التساؤلات تطرح بخصوص من لا يملك أجهزة كمبيوتر أو أجهزة لوحية.

الأمور ليست واضحة لأن الظروف كانت مفاجئة و"التعليم الإلكتروني عن بُعد" يحتاج إلى فترة من الوقت للتكيف مع هذا النمط الجديد على المدرسين والتلاميذ وأوليائهم على حدٍّ سواء، كما أنه يحتاج تنظيمَ ووضع مجموعة من التقنيات والتوجيهات لتوحيد الرؤية التربوية وفق منهج يتناسب مع التعليم الإلكتروني عن بُعد. وبالتأكيد، فإنَّ ظروف انتشار وباء كورونا وهذه السرعة ستضع التعليم عن بُعد أمام اختبار صعب؛ باعتباره خيارَ أزمة وليس حلًّا شاملًا يرتبط في التخطيط للتعليم بظروف طبيعية.

تعليق عبر الفيس بوك