الأوبئة والمواجهة الثقافية

 

د منيرة حسين حجيج

للأوبئة أبعاد أخرى مهمة، غير تلك التي تحصره في مستواه البيولوجي والمخبري. إنه، قبل هذا وبعده، تمثلٌ يفسح المجال واسعا لأدب الوباء بما في ذلك من صور تتجاوز الحدثي لتعانق خيالا تنشط فيه أبعاد مختلفة منها ما يرتبط بالثقافة المحلية وبالتاريخ وبالذاكرة. ولعل هذه الأبعاد المخيالية والإبداعية هي التي ستبقى بعد أن يذهب الوباء ويطرده اللقاح أو العلاج حين يُكتشف. لقد ذهب الطاعون الأسود، مثلا، بما يقارب نصف البشرية في المئة الثامنة، على عهد ابن خلدون والمقريزي، ويظل النص الخلدوني عن هذا الطاعون قائما إلى اليوم. يقول في المقدمة: "فكأنما نادى لسان الكون في العلم بالخمول والانقباض، فبادر بالإجابة". وإنه لمن المثير أن يحيلنا الفيروس إلى تاريخنا وثقافتنا وتمثلاتنا للوباء فنجعل منه مدخلا لنختبر قدرتنا على عقلنة المرض، ولكن خاصة على المواجهة الأدبية والمعرفية للجوائج. وهذه المواجهة تكشف القدرة الثقافية للمجتمع على الدفاع عن نفسه صورة وتمثلا ومخيالا.

ومن هذه الناحية، علينا أن ننتبه إلى جنود الخفاء الذي تحركوا خلف ما يُرى. إنهم أساتذة الجامعة وطلبتها الذي عادوا إلى تاريخ الأوبئة وأدبها فساءلوا الثقافة والذاكرة واستدعوا الرواية  العالمية ليفهموا قدرة المجتمع على تحصين نفسه بالصورة والتمثل. وأكاد أقول إن ثمة مقاومة أدبية وثقافية للوباء انتبهت إليها جامعة السلطان قابوس في دروس الطلاب، مقاومة لا تقل قيمة عن دور خبراء الصحة الذين تصدروا المشهد دون غيرهم، في حين أن الثقافة تمثل هي أيضا عنصرا من عناصر المواجهة واللقاح. وأكاد أقول إن التطهير والتعقيم ووضع الكمامة لا يكفي ما لم نر الجانب الثقافي للوباء. لذلك طوعنا، في قسم الإنجليزية في جامعة السلطان قابوس دروسنا لنفهم هذا العارض ونقرأ ردة فعل المجتمع وقدرته على الدفاع عن نفسه، فعدنا إلى الأدب وإلى الثقافة المحلية العمانية، على نحو خاص، والعربية بشكل عام، لنرى أدبها، بمجازاته واستعاراته وصوره، كيف تعامل، تاريخيا مع الطاعون وكيف تمثله. بذلك كيَّفنا محتوياتنا التعليمية وأشركنا طلابنا في قراءة أدب الجوائح، وحتى أساليب التقييم في الامتحانات تفاعلت مع هذه الظرفية ليجد الطالب نفسه يفكر وسط الجائحة ويسأل عنها ويُقيم جهده من خلال فهمه لها بواسطة الأدب والحكاية والخيال. فكانت هذه تجربة فريدة تربط الفعل التعليمي بما هو راهن بصدد الفعل، تطل على التاريخ بعين، وتعاين الواقع الراهن بالعين الأخرى.

هذا.. ولم  نُهمل ما أنتجه الأدب العالمي من إبداع وفكر في الرواية. ففي رواية الطاعون لأبير كامو التي تدور أحداثها في مدينة وهران الجزائرية، مثلا، ورد على لسان أحد أبطالها: "أجل. لقد حانت ساعة التفكير". لكأنما الوباء فرصة للتفكير على نحو مختلف، تُستدعى فيه الاستعارة للتفكير في الحياة والموت. فالطاعون مجاز مميت، يحيل على شر محدق بالعالم جراء الحروب والتلوث، قد يعزل الإنسانية عن بعضها البعض. ونتذكر أيضا وباء الكوليرا في رواية غابريال غارسيا ماركيز: "الحب في زمن الكوليرا"؛ حيث يكتسب الوباء بعدا سحريا جذابا، يطفو من خلاله ماركيز، تخيلا، فوق واقع، جذوره متأصلة فيه. فالخيال وسيلة حياة وكتابة يتحول فيها الواقع ببؤسه إلى فن غرائبي، مدهش، تصبح فيه المخيلة طاقة حرة.

إننا نطرح هنا موضوع علاقة الثقافة والأدب بالأوبئة؛ لأن هذه الأخيرة إذا ما حلت بمجتمع ما، فإنها تكون فرصة للتفكير والإبداع على نحو مختلف. ولنا في تاريخ الأوبئة عبرة من جهة ما أنتجته من تبدلات في الرؤية إلى الأشياء وإلى العالم. ولطالما كانت مصدر إلهام لأعمال أدبية وفكرية تسائل السائد والمألوف من الأفكار والنصوص وتتجاوزه. لذلك؛ اتسم مخيال الوباء بجاذبية كبيرة لأن من يكتب عنها يحاول أن يجعل من المجاز طوق نجاة من الهلاك، لكأنَّ الأدب لقاح ضد الخوف من الموت بفتح أفقًا إلى مستقبل بلا مرض ولا شر. ويتطلب ذلك رؤية جديدة للوجود والبيئة وشتى طرق الحياة؛ مما قد يجعل هذا النمط من الكتابة  مدخلا للقطيعة مع السائد عن طريق التحلي بالمناعة الإبداعية تخلصا من كابوس الوباء.

تعليق عبر الفيس بوك